هم ليسوا مثلنا يشغلون أنفسهم بالذهاب إلى العمل، ويأخذون أبناءهم في الصباح إلى المدرسة، ويتأففون من ارتفاع حزمة فجل عند البقال؛ ما هذا الإزعاج؟! نحن وحدنا أصحاب الفجل والفول والتميس والمعلبات بأنواعها، وهذه حياتنا التي يجب علينا وحدنا التأقلم معها؛ أما أهل النعيم ـ حماهم الله ـ فلم يُخلقوا لهذا القرف الشعبي؛ لكنهم يبيعونه لنا عن طيب خاطر. وربما أننا نجهل (المقامات) كثيراً عندما نتصور أن أحدهم غامر بالوقوف عند محطة بنزين، وطلب من العامل ملئ الخزان بخمسة ريالات كما نفعل، أو اشترى كراسة رسم من محلات (أبو ريالين) أو انفتح شرابه من عند أصبع قدمه الكبيرة وهو في حفلة، أو تورط في علبة تونة فوجدها منتهية الصلاحية كما نفعل أيضاً، وكما يعيش ويفعل دائماً من يُسمون بعامة الشعب. الناس مقامات يا محترمين، ولا يصح أبداً أن نزعج أهل النعيم بهذه الطقوس الغريبة والتافهة التي نمارسها بشكل يومي، وهم في المقابل لا يحتملون هذا التصعلك الأبدي الذي نعيشه على ضفاف الحياة، ونكدر به صفوهم ومزاجهم الرقيق؛ بل يجب علينا نحن أن نبحث لهم عن حلول لمشاكلهم العظيمة مع الأرق وطول السهر، وعد الفلوس، والبحث عن التغيير وكسر الروتين، وعلينا كذلك أن ندخل السرور على قلوبهم قدر المستطاع، وهذا أقل واجب. فعندما تتعطل سيارة أحد أبناء النعيم في الشارع فعلينا جميعاً أن نهب لنجدته؛ دون أن ننتظر كلمة شكراً. بل إن نشعره بأن هذا جزء من التغيير المحمود والمنصوح به لأمثاله من الطيبين والطيبات، وعندما تتأخر الطائرة القادمة لحضرته من باريس بالآيسكريم والتورتات فتلك كارثة قد تلغي حفلة عيد ميلاد فاخرة، وتدخل الضجر على عائلة بكاملها تعودت أن تكون رهيفة الحس والشعور والطلبات، ولا يصح ذلك أبداً، وعلينا نحن أن نتصرف وأن نوجد حلاً يليق بأهل النعيم دون أن نخدش مشاعرهم المرهفة. فكيف لو كان فص الخاتم الذي جاء من محل إيطالي لا يحمل الحروف الأولى من اسم المحروس أو المحروسة؟! إنها بالتأكيد كارثة، ونحن بسطاء لدرجة أننا لا نعرف شيئاً عما يدور حولنا، ولجهلنا وسذاجتنا فنحن نخترق إتيكيت أهل النعيم دون إحساس بالذنب تجاه هذه الفئة المميزة والغالية جداً، ونُشعرهم بالخجل من تصرفاتنا البدائية، ولا نقدر ما يعانونه بصمت وأنفة دون شكوى؛ فأهل النعيم مشكلتهم الأزلية هي مع الملل والرتابة، والتكرار الفظيع الذي يعيشونه، وربما أيضاً مع وجوهنا العكرة التي يرونها في كل وقت، ولا يستطيعون تجنبها، وليست مشاكلهم مثل مشاكلنا التافهة مع متطلبات الحياة؛ تخيلوا فقط أن الواحد منهم يضطر لتغيير سيارته خمس مرات وربما أكثر في السنة الواحدة؛ كي يواكب الجديد وصرعة الألوان، ويشتري فلة كل شهرين، ويسافر لأوروبا مرتين في الشهر! وهذا واقع مؤلم ومُجهد لا يُحتمل، ويتطلب حلاً عاجلاً للوقوف بجانبهم، فنحن أبناء وطن واحد، و(من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب الآخرة) ولا توجد كربة ـ عند أهل النعيم ـ أكثر من الملل والتخمة والفضاوة، والعيش براحة تامة من لحظة الميلاد وحتى الموت. أعرف أنكم لا تصدقون ذلك؛ فأنتم أصلاً لم تجربوا حياة النعيم حتى تستطيعوا الحكم، لكنني أرجوكم أن ترأفوا بهؤلاء المساكين الذين يعيشون في نكد متصل؛ بسبب أن كل شيء متوفر، ويتوفر بإشارة، وهذا ملل مؤكد، ويستدعي تغيير نمط حياة أهل النعيم بالكامل! بل ويفقدهم لذة الكدح التي نتسابق عليها نحن الميتون في جلودنا من كثرة السعي والمشاوير.. أهل النعيم ليسوا معنا على الخط، ولا يعلمون شيئاً عن مشاكلنا التافهة مع الغلاء، والإيجار، وانقطاع الكهرباء، وعلاجات الضغط والسكر والأطفال، وليس حريا بهم ـ حماهم الله ـ أن يكونوا معنا؛ فمشاغلهم وصفقاتهم التجارية مع بعضهم البعض؛ أخطر من أن يحسوا بما يجري حولهم، ولذلك لا تحاولوا تعكير صفوهم بالحديث عن تجار الخارج الذين يبنون المدارس، ويقيمون المستشفيات، ويهتمون بالتنمية الجماعية حتى في قراهم القليلة السكان والأهمية، ويتبرعون سراً دون بث مباشر، ولوحات نيون، وحفلات بوس وبوفيهات مفتوحة! صدقوني بعض أهل النعيم/التجار ليس لديهم الوقت الكافي لمعرفة طقوس حياتنا اليومية في محطات البنزين، والبقالات، والمطاعم، وأمام بوابات المدارس؛ هم أرفع من ذلك، وبالتالي كيف لنا وبكل بجاحة أن نطلب منهم تخفيض الأسعار، أو التواضع قليلاً، وبأي حق؟ هؤلاء أهل النعيم والمتعة، وكل ميسر لما خلق له؛ أما نحن فصباحنا وصباحكم ـ كالعادة ـ فول وتميس، وعلبة تونة.