لدي كأكاديمي وباحث ومسؤول سابق عن قطاع بحثي هام قلق كبير حول الدراسات والبحوث التي تقوم بها مؤسسات البحث العلمي بكافة فئاتها وحول دراسات أساتذة الجامعات ليس بسبب مستوى تلك الدراسات والبحوث فقد يكون معظمها جيدا، وليس حول ميزانياتها فميزانيات بعض مؤسسات البحث العلمي لا تصرف بكاملها عند نهاية السنة المالية، بل إن مصدر القلق هو حول الاستفادة منها والتعامل مع نتائجها لتحقق تلك الدراسات الأهداف التي عملت من أجلها... وهنا أسأل: هل هناك فرق إن أجرينا بحوثا ودراسات أو لم نجرِ؟ هل سيتبدل حال الموضوع أو القضية أو المشكلة التي أجرينا حولها الدراسات والبحوث؟ بمعنى هل وجدنا الحل وانتهت المشكلة فعلاً وحققنا أهداف تلك الدراسات والبحوث على "أرض الواقع"؟.. وهنا أضع خطاً تحت "أرض الواقع". هل تم تحقيق التطوير الذي ننشده نتيجةً لتلك الدراسات فعلاً؟

بالرغم من أننا أمة مسلمة يدعو دستورنا إلى التدبٌر والتفكُر والتعقل والتذكر إلا أننا مسلمون ثقافة البحث لدينا متدنية.. معظم قضايانا ومشكلاتنا تناقش بين أربعة حيطان في اجتماعات تخرج بحلول مبنية على انطباعات وآراء ثم تتخذ بناءً على ذلك قرارات مهمة، وهذا في رأيي يشكل مشكلة كبيرة وبسببه بقيت معظم قضايانا ومشاكلنا وخطط التطوير تراوح مكانها.. قادني إلى فكرة هذا المقال فعالية افتتاح منتدى الشراكة المجتمعية الذي أقامته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي أقيم في الرياض يوم الثلاثاء 22 /5 /1432هـ والذي آمل أن يكون قد ناقش كيفية الاستفادة من الدراسات والبحوث على أرض الواقع لتحقق أهدافها بشكل علمي.. في رأيي ليس لدينا مشكلة في الدعم وليس لدينا مشكلة في الباحثين.. وليس لدينا مشكلة كبيرة في كم الدراسات التي نجريها، بل لدينا مشكلة "ثقافة البحث" الغائبة في مجتمعنا والتي لم نبذل جهوداً جادة في بثها والإيمان بها. وليس المقصود بثقافة البحث هنا كمية البحوث والدراسات بل المقصود عدم الإيمان باتخاذ قرارات مهمة ليست مبنية على نتائج دراسات وبحوث علمية. وأظن أن المشكلة لدينا تكمن في عدم تحمل المسؤولين الأخبار السيئة أو سماع السلبيات.. تطوير القطاعات والأعمال والمؤسسات على اختلاف أنواعها مربوط بالدراسات التي نجريها بهدف تطويرها. هذه حقيقة علمية. وإذا كان الاستشهاد بمؤسس إحدى الشركات العالمية الناجحة مفيد فلعلنا نستشهد بما قاله بل جيتس مؤسس شركة "ميكروسوفت" في كتابه: "Doing Business at the Speed of Thought" الذي سبق أن استعرضته هنا والذي عرض فيه اثنتي عشرة طريقة لنجاح أي عمل والذي يقول فيه: "إن الأخبار الجيدة التي تصلني عن ميكروسوفت تصيبني بالريبة لأن نجاح أي مؤسسة يأتي نتيجة الأخبار السيئة Bad News ولذلك فإنني أشجع العاملين في ميكروسوفت على إيصال الأخبار السيئة إلي عبر بريدي الإلكتروني الخاص التي أقرؤها وأستعين بآخرين في الرد عليها وآخذها على محمل الجد وأتعامل معها.. ويقول في مكان آخر إن شركة ميكروسوفت تصرف معدل ستمئة مليون دولار شهرياً على البحوث والدراسات التي تهدف إلى تطوير الشركة.

إذاً التطوير والتقدم مربوط بأمرين:

الأول: اللجوء إلى الدراسات والبحوث في الخطط والاستراتيجيات واتخاذ القرارات من قبل من يتربعون على قمم المؤسسات، حكومية كانت أو خاصة.

ثانياً: الإيمان الحقيقي والصادق من قبل هؤلاء المسؤولين بأن الأخبار السيئة عن مؤسساتهم هي التي تعمل على تقدمها وتحقيق أهدافها.

وبناءً عليه يُفترض أن تُبث ثقافة البحث في مؤسساتهم لرسم خططها واستراتيجياتها وأن يقبلوا نتائج تلك الدراسات، واستبدال اللجان والاجتماعات بهذا التوجه الذي أرى أنه بدونه ستبقى مؤسساتهم تراوح في مكانها خصوصاً عند اتخاذ قرارات مهمة أو رسم استراتيجيات أو إعداد خطط. الخبرة مهمة في الاجتماعات واللجان لكنها في رأيي ليست كافية وقد يعتمد على الخبرة بجرعات كبيرة تكون عندها الخبرة مدمرة بدلاً من أن تكون بانية.

إذا كان هناك من يظن أن ما أقوله ليس صحيحاً ولا منطقياً فليقم باجراء دراسة حول:

أولاً: الدراسات والبحوث التي قامت بها مؤسسات البحث لتعرف نسبة القضايا والمشكلات التي عملت على حلها ونسبة ارتقاء عمل تلك المؤسسات وتطورها نتيجة تلك الدراسات.

ثانياً: نسبة القرارات الهامة التي اتخذها المسؤولون في وزاراتهم أو مؤسساتهم أو وكالاتهم أو إداراتهم بناء على نتائج دراسات وبحوث وكم نسبة القرارت المهمة التي اتخذت بناء على اجتماعات وتشكيل لجان؟

نتيجة لكل ذلك أظن أننا نعاني من أزمتين:

الأولى: انعدام ثقافة البحث في مجتمعنا بالرغم من كمية البحوث والدراسات التي نقوم بها. بمعنى أننا لا نؤمن بأننا يجب أن نقوم بعمل دراسة حول قرار مهم يجب أن نتخذه، ونعمد نتيجة لذلك إلى أسهل الطرق: عقد اجتماع أو تشكيل لجنة. وغالباً ما ينتهي ذلك الاجتماع أو تلك اللجنة بقرارت مبنية على انطباعات.

الثانية: أننا كمسؤولين لا نرغب في الاستماع إلى الأخبار السيئة عن مؤسساتنا لأننا نعتبر ذلك من "كشف العورة" الذي ينتج عنه سخونة لم نتعود عليها وإحتالها بالرغم أن ذلك هو الطريق الصحيح لتقدم المجتمعات ورقيها.

هذا كله يدعو للقلق على أهداف مؤسسات البحث العلمي وعلى الكراسي العلمية التي بدأت ثقافتها تنتشر بشكل واسع وعلى الأموال التي تصرف على كل ذلك. وقد ترون معي أننا نحتاج إلى دراسة علمية نعرف من خلالها الخلل في عدم فاعلية بحوثنا ودراساتنا وعدم تحقيقها أو معظمها لأهدافها التي تؤدي إلى تقدم مجتمعنا وحل قضايانا في كافة المجالات.

هل يمكن لمسؤولينا التنفيذيين أن يغيروا من نمط تفكيرهم بمحاولة البحث عن سلبيات مؤسساتهم وتشجيع العاملين لديهم بإيصال تلك السلبيات لهم بشكل منظم وعلمي وشفاف ليتعاملوا مع تلك السلبيات بما تستحق بدلاً من الاستئناس بسماع الأخبار السارة عن مؤسساتهم والتي قد تكون مضللة؟ هل يمكن لمسؤولينا أن يتوقفوا عن أو على الأقل يقللوا من عقد الاجتماعات وتشكيل اللجان ويستبدلوا بعضها أو معظمها وخصوصاً ما يتعلق بقررات مهمة أو رسم خطط أو إعداد استراتيجيات بإجراء دراسات لتكون قراراتهم الهامة مبنية على أسس علمية يكون فيها القرار صائباً يؤدي إلى تطوير حقيقي؟ ستكون النتيجة مذهلة. صدقوني.