نظراً لأن عمل الأجهزة الرقابية في المملكة يعتمد على السرية التامة والعمل الكتوم، وبالتالي لا يمكن البوح علانية بكل ما تقوم به، ولكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى ميزانية لإنجاز المهام الموكلة إليها أو للحصول على أحدث الوسائل والتقنيات، مما قد يعطي الانطباع لدى البعض بأنها تعمل بلا حسيب أو رقيب!
التركيب المعقد والصلاحيات المختلفة التي خولها النظام للأجهزة الرقابية، تدفع إلى التساؤل عن الميزانيات السنوية لهذه الأجهزة، وعن الجهة التي يحق لها أن تراقب أنشطتها وأعمالها.
وحتى نجيب على هذا التساؤل، من الضروري في البداية التطرق إلى الأساس النظامي والقانوني لهذه الأجهزة، ومن ثم تحديد المسؤولية القانونية لها، حتى يمكن التعرّف إلى كيفية الرقابة عليها، وتحديد الجهة المعنية بذلك.
ولنأخذ على سبيل المثال، ديوان المراقبة العامة بصفته الجهاز الأعلى للرقابة في الدولة، فالديوان يختص طبقاً لنظامه بالمهام التالية:
1. التحقق من أن جميع إيرادات الدولة ومستحقاتها قد أدخلت في ذمتها، وأن كافة مصروفاتها قد تمت وفقاً لأحكام الميزانية السنوية.
2. التحقق من أن كافة أموال الدولة المنقولة والثابتة تستعمل في الأغراض التي خصصت من أجلها من قبل الجهة المختصة.
3. التحقق من أن كل جهة من الجهات الخاضعة لرقابة الديوان، تقوم بتطبيق الأنظمة واللوائح المالية والحسابية التي تخضع لها وفقاً لنظامها.
4. متابعة الأنظمة واللوائح المالية والحسابية النافذة للتحقق من تطبيقها وكفايتها وملاءمتها للتطورات التي تستجد على الإدارة العامة بالمملكة.
وتأسيساً على ما تقدم، وبناءً على اختصاصات ومهام الديوان السابقة، نتساءل:
ما هي المسؤولية القانونية للديوان إزاء الجهات الخاضعة لرقابته؟ بمعنى أنه إذا أهمل الديوان القيام بواجباته المهنية، فهل يكون مسؤولاً عن تعويض الضرر الذي يصيب الجهة الخاضعة لرقابته؟، ما هي مسؤولية الديوان تجاه السلطة التشريعية في البلاد؟، وما هي مسؤوليته أمام المجتمع؟ وأخيراً ما هي مسؤولية الديوان القانونية والمهنية في اكتشاف الغش والفساد والأخطاء والمخالفات النظامية ووضع التوصيات لمعالجتها والحد منها؟
هذه الأسئلة تعتبر المفتاح الرئيسي لفهم الطبيعة القانونية لمسؤوليات الديوان، وتعتبر أيضاً الإطار الرئيسي لفهم وتقدير مخاطر الأعمال الرقابية بشكل عام، ولأن الحديث يطول حول قانونية الأعمال الرقابية، فإن اختصر الموضوع في مثال بسيط، لتوضيح ما نحن بصدده، ولنفترض أن الديوان قام بمراجعة الحسابات المالية لإحدى الجهات الحكومية، وقد تبين من خلال هذه المراجعة وجود العديد من الملاحظات حول بعض المستندات وأوامر الصرف، فإن ذلك يعني أن باقي أوامر الصرف الأخرى سليمة من الناحية الحسابية والنظامية، ولا توجد ملاحظات جوهرية على نظام الرقابة الداخلية، ولكن اكتشف فيما بعد وجود أوامر صرف غير سليمة ووجود حالات غش وتلاعب في المستندات بالإضافة إلى ضعف نظام الرقابة الداخلي.. وبالتالي ما هي مسؤولية الديوان تجاه هذه الجهة وتجاه السلطة التشريعية وتجاه المجتمع؟
قد يقول قائل إنه من الطبيعي أن توجد بعض الملاحظات التي لا يكتشفها الديوان وذلك لسبب بسيط ألا وهو أن الديوان يتبع أسلوب العينات الإحصائية في فحص ومراجعة مستندات الصرف..هذه من ناحية.
ومن ناحية أخرى فمن المعلوم أن الجهة هي المسؤول الأول عن إعداد هذه الحسابات، وبالتالي ضمان نظاميتها وخلوها من الأخطاء والتلاعب، هذا بالإضافة إلى أن بعض الجهات الخاضعة لرقابة الديوان قد تعمد إلى إخفاء بعض المعلومات والمستندات عن الديوان!
بالطبع فإن الكلام السابق لا يخلو من وجاهة منطقية، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن تركيز المسؤولية بإدارة الجهة التي تتم مراجعتها، إنما يؤكد ضرورة وعي الإدارة لمسؤولياتها الخاصة بالمعلومات التي تقدمها، وبالتالي ضرورة وضع الأنظمة المناسبة لتوفير تلك المعلومات بصورة تتناسب ومسؤولياتها عنها، وإن مبدأ المسؤولية في صحة وكفاية المعلومات بالإدارة لا يعني، ولا يجب أن يفهم منه، إعفاء الديوان من تلك المسؤولية، إذ تقع على الديوان مسؤوليات مهنية تحددها معايير المراجعة الحكومية الصادرة عن الديوان نفسه، والتي من ضمنها معايير وإجراءات خاصة لكيفية تقدير واختيار العينات الإحصائية ومخاطرها وتحديد درجة الثقة فيها، بالإضافة إلى إجراءات تقييم أنظمة الرقابة الداخلية للجهة الخاضعة للرقابة، وهذه المعايير يجب الالتزام بها عند إعداد الخطط الرقابية وبرامج المراجعة، وعند تقييم هذه الخطط وهذه البرامج وكذلك تحديد نطاق المراجعة وتحديد المعلومات المطلوبة من الجهة، ومدى الحصول عليها، وبالتالي نستطيع تحديد مسؤولية الديوان تجاه أي تقصير أو إهمال في عمله، لذلك فإن المعايير المهنية التي تبناها الديوان تمثل الإطار القانوني لمساءلة الديوان والرقابة عليه وتقييم أدائه أيضاً، والجهة المسؤولة عن هذه المساءلة فهي الجهات القضائية مثل ديوان المظالم في المملكة.
أما فيما يختص بالرقابة المالية على مصروفات الديوان، فالديوان يخضع للرقابة المسبقة لمصروفاته من قبل وزارة المالية، وذلك عن طريق الممثل المالي كأي جهة حكومية أخرى بالإضافة إلى خضوع الديوان لنظام الخدمة المدنية، وبالتالي فإن الديوان وموظفيه يخضعون لنظام تأديب الموظفين في القضاء الإداري في المملكة، وبالتالي فإن الديوان أيضاً خاضع لرقابة هيئة الرقابة والتحقيق.
علماً بأن وزارة المالية والهيئة كذلك خاضعتان لرقابة الديوان، مما يؤثر ذلك على استقلالية الديوان في دوره الرقابي على هذه الجهات، ولكن لتحقيق أفضل استقلالية للديوان وتحقيق أفضل رقابة عليه، اقترح أن تكون اعتماداته المالية عن طريق لجنة مالية منبثقة من مجلس الشورى، أما من الناحية الإدارية فأقترح أن يقوم مجلس الشورى بمناقشة كل جهة حكومية من خلال ملاحظات الديوان، وبالتالي فإن كل جهة سوف تقوم بالرد على هذه الملاحظات من خلال المجلس، ومن هنا نستطيع الحكم على أداء الديوان وذلك من خلال معايير المراجعة المهنية.