ذات يوم قبل ثلاثة أعوام كنت خارجة من الجامعة بعد اختبار نسيت بسببه الإفطار، فتوقفت عند مطعم للوجبات السريعة، وما إن استلمت وجبتي حتى دخلوا للمطعم من بابيه، عرفتهم مباشرة على الرغم من أنها أول مرة أراهم فيها في حياتي كلها، إنهم رجال الهيئة، بدا أنهم يعرفون أين يتجهون ليستخرجوا من إحدى الجلسات فتى وفتاة، في الواقع كان المنظر كله يستجلب الحزن، وخصوصاً عند التفكير في الفتاة وأنها قد تكون زميلة لي صادفتها في المصعد، أو توقفت لترشدني لصالة النشاط مثلاً، أو قد أكون شاهدتها في وسط تجمع للفتيات تلقي النكات وترفع صوتها ضاحكة لتبث في جنبات الجامعة حيوية الشباب واستمتاعه بالحياة.

لقد كان ذلك الموقف مبعث أسى لي طوال السنوات الماضية، وتجدد هذه الأيام عندما نشرت الصحف خبر القبض على فتاة في وضع مخل مع سائق حافلة لنقل الطالبات، هل تختلف هذه الفتاة عمّن سبقتها، أو عن أختك أو ابنتك أو ابنة جارتك أو تلميذتك؟!

إن مجتمعنا - في الواقع- يتفق في معظمه على التربية نفسها، والأسلوب نفسه، بل الكلمات نفسها، مَن منّا لم تسمع من معلمتها أو شقيقتها الكبرى أو أمها :"لاتخطئي، أنت مثل البيضة إذا انكسرت لايمكن أن تعود كما كانت، لذا لاتخطئي"، وبمعنى أدق: لاتحبي في الوقت نفسه الذي يمتلئ فيه الإعلام بكل ما يغري، فهذه الأسرة نفسها التي تردد في أذني فتاتها هذه الجملة لاتمانع مطلقاً أن تستلقي مراهقاتها أمام التلفزيون يتابعن "مهند وسمر"، ثم لاتهتم بكل تلك المثيرات الغنائية في جوالاتهن، وصورالممثلين، عندها ستبحث الفتاة عن الحب قبل أن يأتيها، ومع أي شخص حتى لو كان سائق شاحنة آسيوياً، ثم إنها لن تخبرأحداً إلا من سيوافقها وغالباً سيكنّ صديقاتها الصغيرات، فالحوار داخل الأسرة مفقود، والأم قد أخبرتها سابقاً أن الحب جريمة وعليها أن تنتظر حتى تتزوج، كأن عواطف المراهقة تنتظر، بينما هي تحتاج إلى التوجيه والإيمان بوجودها؛ حتى لاتشعر الفتاة بأن أمها لاتفهم في العواطف، بينما صديقتها ذكية، وأن لقاءً في خلفية حافلة لن يضر.

لاأشك في أن أم الفتاة الأولى التي كانت تنتظر فتاتها على الغداء بينما كانت في جيب الهيئة، وكذلك أم الفتاة الأخرى التي كانت تظن أنها في محاضرة وهي في خلفية شاحنة، الأمّان ظنتا أن واجبهما يتوقف عند تلك الجملة السيئة، ولا أعرف إذا كانت هاتان الفتاتان ما زالتا تتذكرانها، وسيخبرهما عقلاهما الباطنان أنهما مادامتا قد أخطأتا وانكسرتا كتلك البيضة فإن عليهما أن يستمرّا في الخطأ، فأم كل منهما أخبرتهما أنهما لايمكن أن تعودا كما كانتا أبداً، وهذا حديث آخر يمثل قضية أخرى،وللأسف تعاملنا فيها يختلف عن تعامل عمر-رضي الله عنه- مع فتاة أخطأت وأقيم عليها الحد، ثم مر زمن خطبها بعده رجل، فجاء والدها يسأله: هل يخبرالخاطب أم لا؟ فقال عمر: أتعمد إلى ستر ستره الله فتكشفه؟! لئن بلغني أنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، بل أنْكِحْهَا نكاح العفيفة المسلمة.