"..اختلاف الآراء، وتنوع الاجتهادات، مصدر إثراءٍ يضاف لرصيدنا العلمي، وأفقنا المعرفي.." كلماتٌ سامية وردت في ديباجة نص أمر ولي الأمر ـ حفظه الله ورعاه ـ بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر. العبارات السالفة الذكر ينبغي أن تصل للمتلقين شكلاً ومضمونا، والمضمون يفهم بوضوح من خلال العودة إلى ما ذكر في ذات الأمر، من اعتبارٍ كامل، وتقديرٍ تامٍ للرأي؛ طالما كان الرأي رأياً منضبطاً ومسؤولا؛ والانضباط والمسؤولية كلمتان تعني الموضوعية، وتعني كذلك التوثيق والتأصيل بالدليل والحجة، ولا تعني كما يظن المتسرعون ـ داخلياً وخارجيا ـ أن سقف حرية الرأي المنضبط والمسؤول قد انخفض، أو أن النقاش الراقي والهادف، أو النقد العلمي والبنَّاء، الخالي من: "..التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة.." لكل شخصيةٍ اعتبارية، ذات كيانٍ ذاتي مستقل؛ قد منع أو تم تقييده.
من العبارات العلمية الشرعية الدقيقة التي تضمنها ذات الأمر الملكي الكريم عبارة:"..الرجال يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال.."، وهي عباراتٌ محكمة، ذكر أصلَها سيدنا علي بن أبي طالب في إجابة عن سؤال ورده؛ قال رضي الله عنه: "الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، ـ كتاب أقاويل الثقات ـ. كما ذكر مثلها المقاصدي الشهير الشيخ الشاطبي في كتاب الاعتصام؛ قال رحمه الله: "إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال؛ فهو أيضا لا يعرف دون وسائطهم فهم الأدلاء عليه". ومن خلال النقلين لما سبق يستطيع المدقق في العبارتين أن يستفيد من (الرجال يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال) عدة فوائد، من أهمها أن الحكم على الرجال المتخصصين ـ ويدخل في ذلك الإناث ـ هو بحسب اتصافهم بالحق. كما يستفاد أيضاً من نفس العبارة أن الحق لا يمكن معرفته إلا من خلال من ذكرناهم. نعم هناك من ظن أن العبارة تفيد التقديسَ، وتؤكد على عدم النقاش، مع أن حقيقة العبارة تدل على أن الحق ليس حكراً على أي فرد من العالمين، مع الاعتراف للجميع بالمكانة اللائقة بالجميع.
الناس كل الناس مطالبون بتوقير بعضهم البعض في كل الأوقات، وخصوصا أثناء المراجعات والانتقادات، مع الالتزام التام بأن تكون النقاشات معزَّزةً بما يعضدها من دلائلَ وقرائن، وخالية من الأهواء، والأغراض الشخصية، والانتقام، والترويج ـ للحق أو الباطل ـ بالباطل. فمن الطبيعي جداً أن توجد التباينات في الأفكار ـ الأيديولوجيات ـ، ومن البديهي أيضاً أن توجد الانتقادات المنضبطة، بل إن في وجودها فوائد هامة؛ أبرزها أن يبادر المتعرض لها إلى تقوية ما فيه من ضعف، وتقويم ما عنده من اعوجاج، والحيطة فيما هو مقبل عليه. فدوائر حرية الرأي المنضبطة التي دعينا لها ينبغي أن نعرف أنها مشروطةٌ بعدم تداخلها مع دوائر النيل من سمعة الآخرين وأعراضهم، ومقيدةٌ بأن تكون موجهة في الموضوعات لا الذوات. عصرنا عصرٌ مكشوف للجميع؛ هكذا هو، وهكذا ينبغي أن يكون؛ والسماح بمبادلة الآراء (المنضبطة والمسؤولة) خير مساهمٍ في الكشف عما يمكن أن ينمو سراً وفي الظلام. فما أجمل أن نناقش بعضَنا، وأن نختلف مع بعضِنا، مع احتفاظ كل منا للآخر بالحقوق المتبادلة. ولا بأس من الاختلاف، بل يجب أن نختلف، لا لذات المخالفة، بل لأن الاختلاف واقعٌ لا يمكن العيش بدونه.. ليس غريباً اختلاف الناس في وجهات النظر، ولكن الغريب حقاً هو ما سمعناه من تفاسير استباقية للائحة تفسيرية يظن الناس بها خيرا.