على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية كان زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن سؤالا إشكاليا في السياسات العالمية، وهو من جهة أخرى سؤال إشكالي في مسيرة الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو من جهة ثالثة كان سؤالاً دينياً مقلقاً في الذهنية الإسلامية الحديثة. فهو كان مدعوماً في بدايات تشكيله القاعدة من الاستخبارات الأمريكية نفسها أيام حرب الأفغان مع الاتحاد السوفييتي، ليصبح العدو اللدود فيما بعدها بسنوات قليلة للسياسة الأمريكية، وهو الرجل الملياردير، وحتى منتصف التسعينات لم يكن بن لادن مقلقاً إلى ذلك الحد الكبير إلا لدى السياسية الأمريكية، وحتى فترة مكوثه في السودان لم يكن ذلك الرجل الخطير بحيث أصبح المطلوب الأول عالمياً. تحالف مع الدولة الطالبانية ومن ثم أسس جبهته لمحاربة اليهود والنصارى - كما يقول - إلى هذا الحد لم يكن بن لادن إلا مجاهداً في نظر الكثير من المسلمين في شرق الأرض وغربها. هذا على مستوى المجتمعات الإسلامية أما على مستوى سياسات الدول العربية والإسلامية فقد كان بن لادن خطيراً، لأنه يحمل فكراً تكفيرياً يمكن له أن يقود به الآلاف من الشباب نحو ثورات إسلامية.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم يكن العالم، وتحديداً الإسلامي منه، إلا مفروزاً إلى جهتين: أمريكا أو بن لادن. (إما معنا أو ضدنا) كما كان يقول بوش في تلك الأيام، أو (فسطاطي الكفر والإيمان) كما قال أسامة. هاتان الثنائيتان جعلت العالم الإسلامي منقسما على ذاته. كانت السياسات العربية والإسلامية في صف مصالحها السياسية مع أمريكا، وكانت المجتمعات والأفراد المتطرفون لا يشاطرون هذه السياسات رأيها، فهي تميل إلى رأيه حول مفهوم الصراع بين الشرق والغرب. الكثير كان يشكك في قدرة تنظيم القاعدة على تنفيذ عمليات بحجم أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويعتبرون أن هناك الكثير من التسهيلات الأمريكية لدخول التسعة عشر مختطفاً إلى الطائرات حتى تجد أمريكا بؤرة صراع تمرر من خلالها أجندتها السياسية وتخلق توترات في المناطق النفطية. هذه التحليلات كانت أقرب إلى التكهنات منها إلى الحقيقة السياسية لغياب الدلائل والوثائق للحكم السريع لمثل هذه العمليات. اعتراف بن لادن على شاشات التلفزة بتخطيطه للجريمة جعل الحرج في وجوه الكثير من أبناء المسلمين، وخصوصا أولئك الذين يعيشون في الغرب. كره السياسة الأمريكية من قبل الشعوب العربية والإسلامية جعلهم يقبلون على بن لادن ضد أمريكا ليس إيمانا بفكر بن لادن التكفيري الدموي، وإنما إيمانا بكسر الهيمنة الأمريكية على الواقع السياسي العالمي بسبب العديد من مواقفها السياسية المجحفة، وخصوصاً فيما يخص المسألة الفلسطينية، وهي مسألة محورية في الصراع بين الشرق والغرب في العصر الحديث، وأعتقد أنها لو حلت هذه المسألة لانتهى الكثير من المشاكل في العالم العربي. وهْم الرؤية النضالية التي يحملها "بن لادن" جعلت التعاطف معه كبيراً حتى من قبل بعض رموز التيارات القومية لما يحمله الوهم النضالي من هيمنة على التفكير القومي النضالي. أصبح بن لادن رمزاً لمن لا رمز له. تشي جيفارا في الغرب، وجمال عبدالناصر في الشرق الأوسط، وماوتسي تونغ في الشرق الأقصى، وبن لادن في الشرق الإسلامي عامة، على اختلاف فيما بين هذه الأسماء من ناحية رؤاهم النضالية ومرجعياتهم الفكرية، كانوا يحملون ذات الكاريزما النضالية، التي جعلت بعض الشعوب تتعاطف معهم دون أن تتكون هناك مفاهيم متعقلة تجاه الكثير من الأخطاء التي وقعوا فيها.. الأهداف تبرر الوسائل دائماً، والمتعاطفون تهمهم النتائج دون التفاصيل.

الخطابات الدينية كانت في حرج من الوقوف في المنتصف ما بين السياسات المصطفة إلى جانب الحرب على الإرهاب وبين الوقوف إلى جانب العمل الجهادي الذي يحاول تمثّله بن لادن باعتبار الجهاد سنام الإسلام رغم أن "بن لادن" كان مناقضاً للجهاد الحقيقي، أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تكن كافية أبدا في نظر الخطابات الدينية إلى تحول الجهاد الإسلامي إلى عنف مدمر وإرهاب. بعد أن تحولت "العمليات الجهادية" إلى تدمير داخل الصف الإسلامي بحيث بارك وتبنى بن لادن العديد من العمليات الإجرامية والإرهابية داخل الدول العربية، وتحديدا في السعودية بوصفها أهم الدول الإسلامية وحاضنة الأماكن المقدسة، هنا كان لا بد مما لا بد منه، وهو أن ينقسم الخطاب الديني على ذاته، ويصبح الموقف من بن لادن هو الحكم. تحول أسامة ومن معه من مجاهدين إلى ضالين وإرهابيين في صورتهم الحقيقية. الخطاب الديني انقسم على ذاته أكثر مما كان متوقعاً، فكان أشبه بتيارات منه إلى موقف من رجل كابن لادن، إذ ظهرت العديد من التوجهات التي جعلت الخطاب الديني من أعقد الخطابات الفكرية بسبب التداخل الكبير فيما بينها وانفصالها عن بعضها رغم أن الإطار العام كان واحداً، ولعل مفهوم الجهاد والموقف من الآخر كان أحد أهم القضايا التي أفرزتها عمليات تنظيم القاعدة في الداخل والخارج. تلا ذلك انقسامات أكثر حدة على مستوى الآراء الفقهية لم تكن لها صلة بمسائل الجهاد، لكن الانقسام كان قد حصل وجر معه الكثير مما كان في طي الكتمان.

تنظيم القاعدة انحسر وهجه وقوته من ثلاث سنوات أو أربع تقريباً حتى إن أسامة نفسه لم يظهر له أي تسجيل مرئي كما كان من قبل، والشائعات بموته كانت تخرج بين فترة وأخرى. هذه المرة كان الإعلان رسمياً من البيت الأبيض. ردة الفعل الإسلامية شككت في هذا الإعلان. برأيي أن هذا التشكيك في محله، لأن أمريكا لن تفرط في نشر صور فوتوجرافية ومرئية حقيقية لو كان الانتصار على بن لادن قريباً في نفس توقيت الإعلان عن موته، أو على الأقل نشر مراسيم إلقائه في البحر وإظهار وجهه الحقيقي. بل حتى فكرة إلقائه في البحر تجعل علامات الاستفهام أكبر. يبدو أن ابن لادن كان ميتاً قبلها بسنوات، لكن تأجيل موته كان لأغراض سياسية تم الانتهاء من تحقيقها، هكذا هي اللعبة السياسية. لا يمكن التفريط في رجل كابن لادن حتى تتحقق الكثير من الأشياء من خلال الحرب على الإرهاب. السؤال الآن: ماذا يلي طي صفحة بن لادن؟ الذي أنا شبه متأكد منه حالياً أن أوباما ارتفعت أسهمه السياسية وسيرشح مرة أخرى لرئاسة أمريكا مدة السنوات الأربع القادمة. كانت إحدى أهم خطط أوباما الانسحاب من العراق وأفغانستان، ولذلك فإن إعلان موته هو تمهيد لانتهاء الحرب على الإرهاب بالصورة التي كانت خلال رئاسة بوش السابقة.