كانت بريطانيا هذا الأسبوع حاضرة في ذهن الخليجيين، كبقية سكان المعمورة، وهم يشاهدون حفل الزواج التاريخي للأمير الشاب ويليام، وهذا ما تريده بريطانيا التي تسعى إلى استعادة بعض مكانتها، التي فقدتها خلال الأربعين سنة الماضية، حين تخلت عن علاقتها الخاصة بدول الخليج العربية لصالح سياسات الولايات المتحدة الأميركية.

فحال تسلمها مقاليد الحكم عام 2010، أعلنت حكومة المحافظين عن سياسة جديدة تجاه منطقة مجلس التعاون أسمتها "مبادرة الخليج"، وقالت إن هذه المبادرة لم تكن وليدة اللحظة بل تعود إلى أربع سنوات مضت، حينما كان حزب المحافظين يشكل حكومة في البرلمان البريطاني، وكانت وقتها تعبيراً عن معارضتهم للسياسة البريطانية التي كانت تتبعها حكومة حزب العمال، التي لم تعط الخليج أهمية مستقلة، بل كانت في مجملها تابعة إلى حد كبير للتوجهات الأميركية.

ثم بدأ زلزال الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد البريطاني، ولم يكن الحليف الأميركي في وضع أفضل يمكّنه من تقديم العون لبريطانيا. وكان هذا عاملاً آخر دفع حزب المحافظين، وهو ما زال في المعارضة، إلى التفكير في تعزيزعلاقة بريطانيا بدول مجلس التعاون، التي تتمتع بفوائض مالية كبيرة تستطيع من خلالها توفيرالاستثمارات التي تحتاجها بريطانيا للمحافظة على استقرارها المالي وتساعدها على الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة.

وكما نعلم، خرجت بريطانيا من منطقة الخليج العربي منذ نحو 40 عاماً، وأعلنت آخر دول الخليج استقلالها التام عن بريطانيا، وانتهت بذلك علاقة تاريخية خاصة امتدت نحو مئة عام، ولم تكن تلك العلاقة ودية دائما ولا متكافئة، بل كانت في مجملها علاقة بين إمارات عربية متناهية الصغر ومحدودة القدرة اقتصادياً وعسكرياً، والدولة العظمى في زمانها.

وخلال معظم الفترة التي هيمنت فيها بريطانيا على منطقة الخليج – النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين - كانت إمبراطورية لا تغرب عن ممتلكاتها الشمس، في آسيا وأفريقيا وأستراليا وغيرها، ولكن بريطانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي دولة من الدرجة الثانية، سلمت سياستها العسكرية، والخارجية إلى حد ما، إلى الولايات المتحدة الأميركية. وحين حاولت بريطانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، اتخاذ قرارات مستقلة بشأن المنطقة، باءت بالفشل، كما حدث في أزمة السويس في سنة 1956، حين اشتركت مع فرنسا وإسرائيل في الهجوم على مصر لإلغاء قرار تأميم قناة السويس. وجاء أول تقريع لها من حليفها الأول، الولايات المتحدة.

ثم فشلت بريطانيا في مواجهة حرب الاستقلال التي شنها سكان ما كان يسمى الجنوب العربي (عدن وحضرموت والمحميات الأخرى)، وأعلنت تلك المحميات السابقة استقلالها في عام 1967، مضيفة بذلك إلى أفول نفوذ بريطانيا التي فقدت بذلك سيطرتها على باب المندب.

أما في المجال الاقتصادي فقد كان حظ بريطانيا في المنطقة ضعيفاً، بل منحوساً! فلعلكم تذكرون الخطأ التاريخي حين تخلت بريطانيا عن التنقيب عن البترول في المملكة العربية السعودية، لأنها كانت تظن أن أراضي المملكة خالية من البترول! وبالطبع، استفاد الأميركيون من تلك الغلطة ووجدوا البترول، بل وجدوا أكبر حقل بترول في العالم (الغوار) وأسسوا إحدى أكبر شركات البترول في العالم (أرامكو).

ثم أصاب النحس بريطانيا مرة أخرى، فقد تزامن تقلص نفوذها في المنطقة في أوائل السبعينات مع النمو الاقتصادي غير المسبوق في تاريخ دول الخليج، فلم تستفد مثلما استفادت أميركا مثلاً من النمو الاقتصادي في المنطقة. فحالما انسحبت بريطانيا من المنطقة، بدأت أسعار البترول في ارتفاعها التاريخي، وتضاعفت عدة مرات، وتضاعف معها اقتصاد المنطقة إلى أن تجاوزاليوم تريليون دولار هذا العام، وجعل دول مجلس التعاون في مصاف أكبر عشرين اقتصاداً في العالم.

ومن هذا المنظور، تريد بريطانيا اليوم أن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، لعلها تستعيد بعضاً من علاقتها الخاصة بدول الخليج. وبالطبع لا أظن أنها تسعى إلى الهيمنة، فلم تعد دول المنطقة لقمة سائغة كما كانت في الماضي، بل هي تسعى إلى علاقة ندية متكافئة، ولكنها علاقة خاصة. وهي على استعداد لبذل الكثير، كما يقول قادتها اليوم، لتأسيس تلك العلاقة الخاصة.

وأول ما قامت به حكومة المحافظين إلغاء القيود التي وضعتها حكومتا توني بلير وجوردون براون على تأشيرات الخليجيين، فاتخذت الحكومة الجديدة قرارات عديدة في هذا الإطار، تسمح مثلاً لفئات عديدة من مواطني مجلس التعاون بالدخول إلى بريطانيا دون تأشيرات، وسهلت حصول الباقين على تأشيرات طويلة الأمد تصل إلى عشر سنوات، وتسعى إلى تبسيط الإجراءات واختصارها، وتهدف من ذلك إلى تشجيع الطلبة والمستثمرين وأصحاب الأعمال من الخليج لجعل بريطانيا وجهتهم الأولى.

ويدرك البريطانيون أنه مع نقاط الالتقاء، ثمة نقاط خلاف كثيرة، ومن هنا تأتي مبادرة الخليج كمحاولة لمعالجة نقاط الخلاف واحتوائها إن لم يمكن التوصل إلى تفاهم مشترك بشأنها.