بداية التعامل الحسن والتربية السليمة تكون من الأعلى للأدنى وليس العكس، الأب والأم هم الذين يربون الأطفال بوسائل عديدة ومختلفة، وعلى ذلك فقس، المسؤول الأعلى يمكن أن يربي من دونه وهكذا من دونه إلى من هو أدنى في سلم المسؤولية، وذلك بتطبيق الأنظمة والقوانين بعدالة، وبأن يجعل من نفسه قدوة حسنة، والمسألة فيها قدر من البديهية إذا أردنا، وفيها قدر من التعقيد إن شئنا، ومعنى هذا أن الأمر متوقف علينا وعلى أهدافنا، وسأضرب مثلا.
وزارة التربية والتعليم - لاشك – تسعى إلى تطوير التعليم العام، والتطوير هدف جميل، لكنه مطاطي، ومعنى هذا أن الهدف لا بد أن يكون محددا واضحا بحيث لا يختلف عليه اثنان من منفذيه، فلو سألت الآن معلما أو معلمة – وهما الأهم – أو ارتفعت إلى طبقة المشرفين والمشرفات أو حتى مديري التعليم، وسألت أيا منهم أو منهن ما هو التطوير المنشود لحصلت على إجابات تنظيرية مختلفة ومتباينة، لكنك لو ضيقت السؤال وقلت ما هي النتيجة التي تريدون تحقيقها فعليا لهذا الطالب أو الطالبة، لما وجدت إجابة محددة، ماهو السبب؟
السبب من وجهة نظري أن هناك فجوة واسعة جدا بين المُخطط وبين المُنفذ، فهم في الواقع العملي ليسوا أسرة واحدة كما يفترض، بل هم مُرسل ومُتلق، وانتهى الأمر، والنتيجة أن المُرسل لا يعرف صدى رسالته عند متلقيها، والمتلقي لكثرة تجاربه في عدم الاستجابة يطبق ما فهم وقد لا يكترث أصلا.
سأعود إلى بداية مقالي وأقول إن الطفل يفهم بالفطرة أن أباه وأمه موجودان لخدمته، وهما يتصرفان معه على هذا الأساس، فمتى ما تسلطا عليه وحولاه إلى متلق فقط فسدت تربيته وربما انحرف مستقبلا وكره والديه، خذ هذا المفهوم المعروف البسيط وطبقه على وزارة التربية والتعليم التي تستطيع أن تحول منسوبيها كلهم إلى أب وأم واعيين مقتنعين بما يفعلان قبل أن يخوضا ميدان تربية وتعليم الأبناء والبنات في المدارس، إذ لا بد أن يتفق الأب والأم ماذا يريدان أن يكون ابنهما وبنتهما، ولكن كيف؟
مع حفظ المقامات الوظيفية في الوزارة التي فيها مواقع كثيرة لا داعي لها، لا بد أن يشعر العاملون في الميدان كلهم أن الوزارة وفروعها – إدارات التعليم – تم إيجادها لخدمتهم وليس للتسلط عليهم، لأن هذا التسلط يتحول إلى تسلط على الطلاب والطالبات من قبل هؤلاء الميدانيين، وهناك فرق كبير بين الخدمة وبين التسلط، فإذا كانت الوزارة – مثلا – تصدر متى شاءت وكيف شاءت تعميما وعلى إدارات التعليم التنفيذ، فإن الإدارات ستبلغ الميدانيين وهؤلاء تلقائيا يترجمون الأمر مع الطلاب والطالبات (ذاكر واحفظ واسمع ولا تسأل ولا تتكلم)، وقس على ذلك موضوع الأنظمة والحقوق ونحوها وآخرها حركة النقل التي أصدرتها الوزارة وقالت (اللي ما يعجبه يشرب من البحر)، ومعنى هذا أن الميدانيين في الوزارة – وهم الأهم – منفذون لاشركاء، وبهذا يكون كل همهم مركزا في أن ينمو هؤلاء الأبناء والبنات كيفما اتفق، وبالتالي فإن أي تطوير مهما كان رائعا ومهما لن يغادر الورق إلى عقول الأبناء والبنات في المدارس ما لم يشعر المعلم والمعلمة أن مدير ومديرة المدرسة والمشرفون والمشرفات ومديري التعليم ووكلاء الوزارة ونواب الوزير والوزير، ما لم يشعرا أن كل هؤلاء موجودون لخدمتهما، فإذا شعرا بذلك تحولا بدورهما إلى أب وأم فيشعر الطلاب والطالبات أنهما لخدمتهم تربية وتعليما فعليين.
قبل مناقشة التطوير وآلياته ونتائجه لا بد من إعادة النظر في مفاهيم تراتبية المسؤولية من الأعلى إلى الأسفل وإحلال مفاهيم الخدمة بدلا من التسلط وإلا فلا جدوى.