خلال الأسبوع الماضي كانت أمامي عدة قضايا جادة تستوجب التطرق إليها.. إلا أنني ما إن جلست لأكتب إليكم رسالتي الأسبوعية حتى وقفت أمام قضية إنسانية أثارت في نفسي الاستياء الشديد، ومن هنا أعتذر لكل من انتظرأن أكتب عن اتفاق فتح وحماس والذي سيعتمد – بإذن الله- خلال الأسبوع القادم، أو عن مهرجان الحب والوفاء البحريني الذي انعقد يوم الخميس معلنا عن عمق العلاقات الأخوية التي جمعت وتجمع بين مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية حكومة وشعبا.
والسبب في عدم تطرقي لهذين الموضوعين أو لغيرهما.. هو تحقيق أجرته جريدة اليوم ونشرته يوم الجمعة تحت عنوان كتب بعرض الصفحة.. وجاء فيه ( معاقون منسيون في مراكز التأهيل) إعداد "ماجد العتيبي" لم يكن بإمكاني أن أمرعلى هذا العنوان دون نظر ودون تدبر، فالقضية بالنسبة لي قضية إنسانية تستلزم العناية العاجلة، إذ يذكر توجه الكاتب لزيارة " مركز الرعاية الشاملة للذكور" في الدمام، هذا التحقيق أشار فيما أشار إلى الرعاية المتميزة التي يقدمها المركز لأبنائنا ذوي الاحتياجات الخاصة، لكن القضية الأولى التي أثارت اهتمامي كانت منحصرة بحق الابن ذي الاحتياجات الخاصة لرعاية أبويه وأسرته، فالرعاية الحكومية المقدمة له سواء كانت صحية أومعنوية أوحتى تعليمية، لا تؤدي الغرض المطلوب، ولا تلغي حاجة الطفل لرعاية وحنان أبويه وأسرته، ومن الخطأ بل من الجريمة أن يحرم هذا الطفل من حنان ورعاية أبويه وأسرته اعتمادا على أن إدراكه لمن حوله ضعيف جدا، فهذه الفئة تملك من المشاعر الجياشة ما لا يمكن أن ندركه نحن الأصحاء، كما أننا عاجزون عن أن نصل لصفاء سرائرهم ونقاء قلوبهم.
والحقيقة أن أكثر ما آلمني في هذا التحقيق هو ما أشار إليه مدير مركز التأهيل الشامل "علي الشهراني" من أن هناك أسراً لا تقوم بزيارة أبنائها ولا تستجيب لدعوات المركزالملحة لزيارة أطفالها ، مما يضطر إدارة المركز للاستعانة بخدمات "برنامج الحماية الاجتماعية" بالتعاون مع إمارة المنطقة لإجبارها على زيارة أطفالها، كما أشار إلى النسبة العالية من الوالدين والأسر الممتنعة عن زيارة أبنائها، فقال إن هناك: (أسرة حريصة على الزيارة حتى أصبح بيننا وبينها شيء من الترابط والمعرفة ،وأسرة تأتي من خلال الاتصال والمتابعة للحضور، وأسرة قد تصل نسبة عزوفها 30 إلى40 في المئة عن الزيارة، ومثل هذه الأسر تحتاج إلى التثقيف والوعي حتى أصبح لدينا كمهنيين مناهج خفية لهم) وعجبا.. برامج خفيه تذكرهم بأبوتهم تجاه أبنائهم وتذكرهم بواجبهم تجاههم، ثم ما هي الجريمة التي اقترفها هؤلاء الأبناء ليستحقوا هذا الصدود وذاك النكران، إن ما يقوم به هؤلاء الآباء – من وجهة نظري بالطبع- هو أشبه بوأد الأبناء! ولأوضح الصورة المأساوية التي وصلتني من خلال هذا التحقيق أنقل إليكم عبارة قيل إنهم كثيرا ما يرددونها عليّ دوما.. ودون يأس، إذ يقولون: (أبوي بيجي.. وأمي بتجي) إن هؤلاء الأبناء لا يعرفون إلا الوفاء ويعتقدون أن آباءهم يبادلونهم الشوق بشوق مثله!
ولأظهر أهمية ارتباط أبنائنا ذوي الاحتياجات الخاصة بوالديهم وأسرهم، سأشير لحديث مديرالمركزالأستاذ الشهراني، فقد قال حفظه الله وبارك فيه:(إن زيارة الأسرة أبناءها لها الأثر الواضح عليهم وتستمر سعادتهم لأيام..) هذه الزيارات القصيرة تترك أثرا إيجابيا في نفوس أبنائنا وتسعدهم لأيام متتالية، ولكنها بالتأكيد لا تسعد أصحاب القلوب المتحجرة من آباء وأمهات!.
وأجد نفسي منساقة للحديث عن أحوال السجناء في المملكة العربية السعودية والذين صدرت أحكام بسجنهم، فما يحدث لهؤلاء السجناء يؤكد استيعاب الدولة من ناحية واستيعاب أسرالسجناء من ناحية أخرى لأهمية الروابط الأسرية.. فهؤلاء ـ والذين قد يكون بعضهم مهددا للأمن والأمان الوطني ـ لا يحرمون من التواصل الأسري فالنظام سمح بذلك والأسر من جهتها أقبلت على ذلك، ففي عام (1398هـ ) طبقت السجون السعودية نظام الخلوة الشرعية، وهذا النظام يسمح للسجين بالاختلاء بزوجته مرة كل شهر ولمدة ثلاث ساعات، ثم تطور في عام( 1406هـ) فسمح له بخلوة مرتين لمن كان له أكثر من زوجة، ثم زادت الفترة لتصل إلى مرتين شهريا لكل زوجة في حال تعدد الزوجات، كما سمح لحسن السيرة منهم بالخروج لأسرته لمدة أربع وعشرين ساعة مرة كل شهر، شرط قضائه نصف المحكومية التي عليه ويجب ألا تقل عن عام، وأخيرا تم إصدار تعليمات حديثة من وزارة الداخلية، توسع عملية ربط السجين بأسرته وتتمثل في السماح له بالخروج من السجن لزيارة الوالدين أو الأولاد أو الزوجة في حالة عدم تمكنهم من زيارته في السجن لأي سبب من الأسباب.
بالله عليكم كيف يتأتى لنا كمجتمع وكأسرأن نحرص على التواصل مع أبنائنا السجناء الذين قد يكون بعضهم أخل بأمن الوطن، فيسمح له على ظلمه بالعيش حياة طبيعية فلا نعاقبه بفصله عن أسرته خلال فترة محكوميته، بل يفسح له المجال لزيارتهم في حال لم يتمكنوا من زيارته لأي سبب، نفعل ذلك كمجتمع وكأفراد.. حتى لا يشعرالسجين بالغربة في سجنه، ثم نترك أبناءنا من أصحاب الاحتياجات الخاصة يعيشون غربة موحشة دون ذنب اقترفته أيديهم، ثم كيف نترك هؤلاء الآباء والأمهات دون عقوبة على هجرهم لأبنائهم، ونكران بعضهم، ويا ليتنا نعمد لتهديدهم بالتشهير بهم وإذ لم يرتدعوا نلزمهم بدفع تعويضات مالية وبشكل دوري، على أن توضع في حساب خاص بالأبناء المعنيين، وفي حال امتناعهم يخصم من حساباتهم الشخصية بشكل رسمي، وفي حال عجزهم عن دفع الغرامات تفرض عليهم خدمة المجتمع والمراكز الاجتماعية، وأخيرا إذا كان العناد هو الجواب على كل ذلك.. ليتنا نسجنهم ولو لفترة قصيرة كما سجنوا أبناءهم وليتنا نحرمهم من أي زيارة ولأي سبب كان، لعلهم يذوقوا مرارة البعد عن أسرهم ويتجرعوا ما قاموا به تجاه فلذات أكبادهم من ذوي الاحتياجات الخاصة.. فإذا كان لأبنائنا الأصحاء حقوق فلأبنائنا المرضى حقوق أعظم..والله الهادي لسواء السبيل.