-1-

تمثل مصر بثقلها التاريخي والحضاري والثقافي وزناً كبيراً في العالم العربي، منذ مطلع القرن التاسع عشر، عندما تولى حكمها محمد علي باشا عام 1805، وقام بنهضتها الكبرى، وفتح أبوابها لرياح الحداثة الغربية في ذلك الوقت. وأصبحت مصر منذ ذلك التاريخ، تمثل للعرب الرجاء، والأمل، والملجأ، حيث توافد عليها في القرن التاسع عشر الكثير من أدباء ومفكري ومثقفي بلاد الشام، والعراق، والجزيرة العربية، هروباً من الطغيان العثماني، والاستعمارين البريطاني والفرنسي، وأسسوا فيها المجلات العلمية والسياسية والثقافية، وكذلك الصحف، وأقاموا المنتديات المختلفة. وظلت مصر منذ ذلك الوقت منارة المشرق العربي ومغربه، يفد إليها كل طالب علم، ومعرفة. وأصبحت القاهرة، بمكان باريس للغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

-2-

اليوم يحدث في مصر تغيير كبير. فقد أصاب مصر زلزال خطير، وبركان متفجر. وثورة 25 ينايرالتي زار مسؤولوها في الأمس دول الخليج، شارحين أهدافها، وسياستها، وحاضرها، ومستقبلها، ما وسعهم ذلك من شرح وتفسير، تثير أسئلة كثيرة، تحتاج إلى إجابات صعبة وعسيرة، خاصة في فجر الثورة المتفجر، كأية ثورة أخرى في التاريخ. فمن الذي يستطيع الاقتراب من ثورة البراكين في أيامها الأولى. وعلماء الأرض المختصون ينتظرون مدة ليست بالقصيرة، لكي يبدأوا بالبحث العلمي عن ظواهر هذه البراكين. وكذلك الحال بالنسبة للثورات.

-3-

ولكي نستطيع أن نصل إلى بعض الحقائق عن مستقبل مصر المهم، بعد 25 يناير، يجدر بنا أن نسأل التالي:

1- لماذا ظن كثير من "المثقفين" المصريين أن نظام ثورة 1952 لم يسقط، وأن العقلية الدكتاتورية التي حكمت طيلة ستين عاماً (1952-2011) هي التي ما زالت تحكم مصر، حيث لا رأي ولا رأي آخر، بل هناك رأي واحد، هو رأي الثورة، ومنطق الثورة. ولا شرفاء، ولا شريفات، غير شرفاء وشريفات الثورة؟

2- هل كافة الثورات في التاريخ ومنها ثورة 1952، وثورة 25 يناير، تُدخل في القاموس السياسي عبارات وألفاظا جديدة كألفاظ: عميل، مأجور، فاسد، خائن، عدو الشعب، رجعي، انتهازي، متآمر؟

3- لاحظ كثير من المثقفين أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، يستجيب فوراً لكل نداء، أو مطلب، يأتي من الشارع. وكأن الشارع أصبح هو الحاكم الفعلي في مصر، وصوتها الأوحد. ومن هذه المطالب المصيرية والخطيرة إلغاء اتفاقية كامب ديفيد 1979. ومطالبة الشارع بإلغائها مطلب عاطفي جيّاش، ولكن لا يستند إلى العقل السياسي، والمخاطر السياسية المترتبة عليه. فهل أصبحت الاستجابة لمطالب الشارع المصري، دون تمحيص، أو توعية سياسية عقلانية لهذا الشارع، تضع ثورة 25 يناير في باب "حُكم الشارع"، وهو من الأبواب التي تخرج منها الأمم، ولا تعود؟

4- يقال إن البلاغات المختلفة التي وصلت إلى النائب العام المصري، حتى الآن، عن الفساد والمفسدين والسرقة والسارقين، قد بلغت عشرات الآلاف. وما زال سيل هذه البلاغات يتدفق على النائب العام. فماذا لو ظهر بعد التحقيق والتدقيق كذب نسبة كبيرة من هذه البلاغات، وأن المطالبة بشنق فلان، وسجن (علان) مدى الحياة، تُهم باطلة على غير حق، وأن هذه البلاغات بلاغات كيدية كاذبة، فهل سيحاسب النائب العام، أصحاب هذه البلاغات؟

5- هل محاربة "الحزب الوطني" الحاكم - سابقاً- في مصر وتفكيك أركانه وقواعده، وسجن زعمائه، ومصادرة أمواله، وعقاراته إجراءات كافية، للقضاء على الحزب؟ وماذا لو تم تغييرالأيديولوجيا السياسية لهذا الحزب، - كما حصل مع الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية، بعد انهيارالاتحاد السوفيتي 1989، التي غيَّرت أيديولوجيتها وجلدها، وعادت إلى الساحة السياسية، ومنها من يحكم الآن في بعض دول أوروبا الشرقية- وعاد هذا الحزب إلى الحياة السياسية، سيما أنه نافذ في معظم أركان الدولة. فهل سيحكم هذا الحزب مصر، مرة أخرى، بعقلية سياسية جديدة، وأيديولوجية سياسية جديدة، بعد أن قام بتنظيف نفسه من كل رموز الفساد الحقيقيين؟

6- هل يصلح الثائر أن يكون حاكماً؟ ولماذا رفض محمد علي باشا (السياسي المحنك) تولية الشيخ الثائر عمر مكرم السلطة، بل إنه نفاه إلى دمياط عام 1809، وبعد أربع سنوات من ثورة 1805 ضد المماليك والعثمانيين؟ وهل كان أحمد عرابي الثائر عام 1881 مؤهلاً لحكم مصر؟ والسؤال الآن: هل من يثور في الشارع، مؤهلٌ لأن يحكم بعد ذلك؟

7- لقد ارتفعت من جديد بعد 25 يناير في مصر، شعارات الحرية، والدولة المدنية، والنظام الديمقراطي – كما يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في مقاله "الأسماء مطروحة في الطريق"، (الأهرام، 27/4/2011) - الذي نسعى لإقامته اليوم، ونجتهد في الوصول إليه، ونتسابق في التعرف عليه، ووضع أسسه، وتحديد معالمه، التي يبدو أنها لا تزال غائمة غير واضحة بالنسبة للكثيرين، والدليل على ذلك ما نراه في برامج بعض الأحزاب والجماعات من تناقض صارخ، وخلط سافر، بين الفكرة وعكسها، وبين المبدأ ونقيضه، فكيف سيكون مستقبل مصر القريب، طبقاً لهذا كله؟

8- لم يظهر لثورة 25 يناير حتى الآن مفكرون ومخططون- كما قال الفيلسوف والمفكر المصري مراد وهبه- فالدولة لا تُبنى من الشارع. والشارع لا يبني دولة، وإنما يطالب ببناء دولة جديدة. فأين هم البناؤون المصريون للدولة الجديدة، الذين لم يظهر منهم أحد حتى الآن؟

9- يتساءل المثقفون المصريون الآن عن: نظام الحكم والمبادئ التي تحكم هذا النظام، والسلطات التي يقوم بها ومصادرها، وهل تكون الأمة هي مصدر السلطات والقوانين، أم سيكون لها مصدر آخر يفرض على الأمة وصايته، ويملي عليها إرادته، كما يحدث في الدولة، التي تسعي جماعات "الإسلام السياسي" لفرضها على المصريين؟ وكيف يكون وضع المواطنين غير المسلمين في نظام سياسي، تتولي فيه هذه الجماعات السلطة؟

10- وأخيراً، هل ستمارس مصر الإعلام المتوازن الذي يقدر – كما قالت الكاتبة المصرية لميس جابر - على طرح الرأي من داخله، وبوحي من عقله وضميره، ولا ينتقم، أو يتشفى، تخليصاً لحسابات، أو يفتعل بطولات، أم أن هذا يحتاج لكثير من الوقت؟