كلما كانت الموائدُ زاخرةً بأنواع الأشربة كلما زاد عدد القِداح والكؤوس على خِوانها، وكلما كانت المآدبُ فاخرةً بأطايب الطعام كلما كانت الكؤوسُ أدقَّ وأرقَّ وأغلى ثمناً.
ومما طبعت عليه القداحُ والكؤوسُ أنها تتراقص - غضباً، لا طرباً - كلما اهتز الخِوانُ (الطاولة) من تحتها، وكلما اشتد الاهتزازُ كلما تمايلت الكؤوسُ، وَقَرَعَ بعضها بعضاً بما قد يؤدّي إلى تكسُّرِ بعضها أو انثلامه؛ في الوقت الذي قد لا تأبه الطاولةُ لبعض تلك الاهتزازات؛ ما لم تكن عنيفةً بحيث يمكن لتلك الاهتزازات أن تقلبها وما عليها.
هذا هو حال المناضدِ وكؤوسِها مع ما يعرِضُ لهما، وهو نفس حال الإدارات والمصالح العامة والمستفيدين من موائدها مع النقد الذي يُزلزل أركان تلك الإدارات ومن يستفيد من خيراتها بغير حق.
إن في كل دائرة حفنةً من المستفيدين من جنوحها وحيدتها عن النهج المرسوم لها، وهم المرادون بمصطلح (كؤوس الطاولة)؛ يَكثرون مع كثرة المنافع على الطاولة، ويَقِلُّون مع قِلتها، ويَقلَقون ويُقلِقون عند اهتزازها.
هؤلاء المنتفعون هم الذين يعملون على تغطية أعين مسؤولي تلك الدوائر عن كل ما يمكن أن يقطعَ عليهم انتفاعهم منها، أو يمنعَ من تنامي استنفاعهم بها، وهم الذين يُبادرون المصلحين بالمواجهة والوصم بالتجهيل والعداء؛ لِما يخشونه من تطبيقٍ صادقٍ لمقتضى النقد، فيفقدوا - حينذاك - ما يُحقق لهم مآربهم على حساب المعنيين - أصلاً - بخدمة تلك الدوائر الموبوءة بهم وبأمثالهم.
إن هؤلاء الناعقين ينبُتون في جميع الدوائر بلا استثناء؛ كما تنبُت الطحالبُ الضارةُ في جَنَبَات الماء، ثم تتنامى حتى تُغطيَ وجهَ الماء، فتحيله مستنقعاً آسناً بعد أن كان غديراً زُلالاً.
هذه الطحالب الخائبة لا يَرُدُّها عما جُبِلت عليه إلا أن يَجري الماءُ بقوةٍ تجرف كلَّ طُحلُبٍ خبيثٍ من جذوره قبل ترسيخ مواقفه، أو يُقَيِّضَ الله للماء من يتعاهده، باقتلاع ما يظهر منها كلما رآها.
إن مهمة كلِّ مسؤولٍ ناصحٍ أن يقودَ دائرته دون الالتفات للثناء الكاذب، ولا للتثبيط الخائب، وأن يعلم أن أوَّلَ من سيتخلَّى عنه هم الذين يُغرونه بالسوء ويدفعونه إليه، وأن أسبقَ من سيكيدُ له هم من يرون أنهم استهلكوا طاقتَه واستنفدوا قُدُرَاتِه في تحقيق مصالحهم، عندئذٍ سيُطيحون به لا محالة؛ لٍيستقبلوا آخر يرجون أن يمتطوه لمصالحهم كالذي قبله، وهكذا دواليك لا يفترون، ولا يرعوون.
إن مهمةَ المصلحين الناصحين - من أهل الرأي - تبصيرُ تلك القيادات بواقعهم وحالهم الصادق، وإسعافُهم بما يمنع عنهم امتداد تلك الأيدي المُلَوَّثَة، وبما يقطع عنهم شرورهم الآثم، وبما يرفع من كفاءة أدائهم وأداء منسوبيهم؛ مع غض الطرف عن ما يلاقونه في سبيل تحقيق ذلك الهدف الرائد.
وإن منابر النقد الهادف لأداء أجهزة القطاع العام لم تُتح لمجتمعٍ كما هي مُتاحةٌ لنا في زماننا هذا، كما لم تُتوَّج بالرعاية الملكية المباشرة مثلما هي عليه اليوم في بلادنا، ومن المناسب: أن نرى - مع هذا الفضاء الرحب - أموراً منها:
1/ تسابقُ المصلحين وتنافسُهم في تسليط أضواء النقد نحو الممارسات المستهترة من قِبل الإدارات والمصالح الحكومية التي جعلت صلاحيَّاتِها لها مغنماً، وعَدَّت حاجاتِ الناس عليها مغرماً.
2/ توزيع الاختصاصات بين أهل الرأي؛ بحيث تشمل الحملة الإصلاحية المشروعة أكبرَ قدرٍ ممكنٍ من القطاعات الخِدمية؛ سعياً للرقي بمستوى الأداء في جميعها، أو في غالبها.
3/ تضمين كل مقالةٍ نقديةٍ ما ينبغي على الجهة أن تعملَه؛ لِتُحَقِّقَ للعامة ما يُرادُ منها، ولتطبق من السياسات ما اختطه لها ولاة الأمور في التعليمات والأوامر والخُطط الرسمية المعتمدة من جهاتها المعنية بها.
4/ متابعة أداء الدائرة المستهدفة بعد نشر النقد الهادف؛ لمعرفة ما تُقرِّره حيال ما نُشر عنها من إهمال، أو تجاوب.
5/ الإشادة باستجابة الدائرة لما يُنشر عن مستوى أدائها؛ بما يتناسب مع مقدار ذلك التجاوب، واستحثاث الهمم لتكميل الاستجابة لنداء الإصلاح.
6/ تكرار التنبيه تِلو التنبيهِ في مُدَدٍ زمنيةٍ متفاوتة، لحث رؤساء الدوائر المعنية على سرعة البدء بالإصلاحات المطلوبة، والتضييق على منافذ الفساد في الدائرة.
7/ الاهتمام بالتعليق على ما يُنشر من تلك الدوائر من تعقيبات - في سبيل التنصل عن مسؤولياتها النظامية - ومواجهتها بما يُؤكدُ عليها القيام بواجبها، والبعد عن المراوغة والتَّفَلُّت وتبرير الأخطاء.
8/ تجنب الخوض - من أهل الرأي - في ما لا طائل منه مع المنتفعين من تردِّي الأوضاع من أزلام المستهدفين وأتباع المقصودين بالنقد.
إن هذه الأمور كفيلة بوضع الخطوط الحمراء فوق وتحت الجمل والكلمات الدافعة نحو تحقيق التنمية وتحديد مسارها بما يحفظ على الناس والدولة النظام العام والعدل الاجتماعي والأمن الداخلي.
ويكفي الناصحين - من أهل الرأي - تأييداً لمساعيهم النبيلة ما ورد في الأمر الملكي الأخير ذي الرقم : أ/93 المؤرخ في: 25/ 5/ 1432 بشأن تعديل بعض مواد نظام المطبوعات، وفيه ما نصه:-
(.... مستصحبين في هذا: أن اختلاف الآراء وتنوع الاجتهادات مصدر إثراء يضاف لرصيدنا العلمي وأفقنا المعرفي، على ضوء ما أرشد إليه سلفنا الصالح من اعتبار الاختلاف العلمي الرصين من سعة الشريعة ورحمتها بالأمة، وأن الرجال يعرفون بالحق والحق لا يعرف بالرجال، مع إدراكنا لحقيقة النقد البناء الذي لا يستهدف الأشخاص والتنقص من أقدارهم أو الإساءة إليهم تصريحاً أو تلويحاً؛ فالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تتجلى في وجدان كل مخلص صادق لا ينشد إلا الحق بدليله ويسمو بنفسه عن كلمة السوء وتبعاتها في الدين والدنيا؛ فحرية الرأي المنضبطة والمسؤولة التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام محل اعتبارنا وتقديرنا) انتهى نص المقصود.