لا أحد يشكك ولو للحظة واحدة بأن من معضلات التنمية في المملكة العربية السعودية ومعوقاتها الرئيسية هو عدم قدرة خططها المتتالية على التعامل مع المرأة بالشكل المطلوب الذي تحتمه أسس ومفاهيم التنمية، من حيث شموليتها واعتمادها على كل طاقات مجتمعها البشرية، للنهوض بها، وإيصالها إلى مبتغاها المطلوب منها. حيث لا تستطيع أي تنمية أن تنجح في تنمية أي مجتمع، وهي فقط تركز على نصفه، وتعتمد على نصفه في النهوض به كاملاً، وتهمل نصفه الآخر؛ حيث تخلق من نصفه عالة على نصفه الآخر، ويتحول إلى عقبة كأداء أمام نصفه المميز لصالحه، فتحرمه من أداء دوره التنموي كاملاً.

المجتمع كالجسد الواحد، لا يمكن العناية بنصفه أو الاهتمام بنصفه صحياً وإهمال نصفه الآخر. ويصدق هذا على المجتمعات. فلم يحدث أن مجتمعا حديثا وصل لقمة التنمية، بواسطة فئة منه، أو حتى نصف منه، دون بقية فئاته أو نصفه الآخر.

ومن مفارقات التنمية في المملكة أنها اعتنت بالمرأة تعليمياً، وبنفس الوقت، تجاهلت فتح المجالات أمامها لتحقق ذاتها ومن ثم تلعب دورها المطلوب منها في تنمية مجتمعها. وهذا لا يستقيم مع منطق الحياة، فالعالم بالشيء يقترب منه أكثر، إن لم نقل ينغمس فيه أكثر، ويصبح شغله الشاغل. وإذا تم إقصاؤه منه تتحول الحالة لديه من حالة علم بالشيء إلى حالة نضال من أجل الشيء، أي تتحول إلى حالة نضالية، خاصة إذا تم دعم العلم بها بالتربية الإنسانية السوية.

عندما فسح المجال للفتيات لخوض مجال التعليم الحديث، وخرجت من بيتها لأول مرة، كان هذا إعلانا لانعتاقها من أسرها المنزلي، ومن الصعوبة في أي حال، أن يرجع السجين لسجنه المؤبد الذي كان فيه طواعية مرة ثانية، وهذا ما كان يتمناه الكثير ممن سمح لهن بالخروج من بيوتهن للمدرسة أول مرة.

هذا من ناحية التعليم، أما من ناحية التربية، فقد أفرزت التنمية في المملكة طبقة وسطى متعلمة، خرج منها موظفون ورجال أعمال غير تقليديين، أثبتوا تواجدهم منذ الخمسينيات ميلادية، وبشكل ملحوظ. حيث تولوا إدارة الدولة وشركاتها ومؤسساتها الضخمة والمتوسطة العامة منها والخاصة، وبكفاءة عالية، مدعومين بالتعليم العالي في خارج وداخل المملكة، وتزويدهم بالدورات الداخلية والخارجية؛ مما أفرز منهم عائلات متعلمة وقادرة مادياً، ومتحضرة في معاملاتها وتربيتها لأبنائها وبناتها، حيث أصبح الأب لا يفرق بشكل ملحوظ بين ولده وابنته، بل منح ابنته حنانا أكثر وأصبح أكثر قرباً منها؛ مما أعاد للأنثى في المجتمع شيئاً لا يستهان به من احترام ذاتها وثقتها بنفسها، كإنسانه متواجدة وفاعلة، وغدت "بنت أبوها" المحمية حقوقها في المنزل، جنبا إلى جنب مع أخيها. وهنا صممت على نقل الاعتراف بحقوقها وحمايتها، من محيطها الضيق "المنزل" إلى محيطها الأوسع، "المجتمع" المهمش لها.

التعليم خلق عند المرأة السعودية الوعي بذاتها وبمحيطها القريب منها والأبعد عنها، وحرمانها من حقوقها وممارسة دورها الطبيعي الذي هيئت لتمارسه، خلق عندها الإصرار على إثبات ذاتها، وتحقيق النجاحات تلو النجاحات في مجال تخصصها. وتهميشها خلق لديها هامشا من الحركة والشجاعة دفعها لتتحرك بحرية من خلاله. واطلاعها على ما يحدث في المجتمعات المنفتحة القريبة والبعيدة عنها، خلق لديها دافع الإقدام. وروح العصر التي منحتها كامل إنسانيتها، خلقت لديها الإصرار على التمتع بكامل إنسانيتها. وتقنيات التواصل العصرية، أخرجتها من قمقم القوقعة الاجتماعية التي حشرت داخلها عنوة ولقرون، لتتواصل مع غيرها من بنات جنسها وتنسق معهن، مهما بعدت المسافات بينهن وشمخت الأسوار المحيطة بهن؛ من أجل انتزاع حقوقهن وتحقيق ذواتهن. ولذلك فهن قادمات وبقوة وبجدارة لا مثيل لها.

الرجل كان وما زال تقدم أمامه الإغراءات تلو الإغراءات للإسهام بدوره في تنفيذ خطط الدولة التنموية، والمرأة توضع أمامها العقبات تلو العقبات لكي لا تمارس دورها في التنمية، إلا بالقدر الضيق والمحدود الذي سمح لها بممارسته، وهو جد قليل وضئيل، مقارنة بدور شقيقها الرجل، ومقارنة بمؤهلاتها وجدارتها، ولذلك احتفظت بطاقاتها الهائلة مخزونة داخلها تنتظر ساعة الانفجار. وعليه فالرجل ما زال ينتظر أن تأتيه الإغراءات وهو جالس في بيته أو مكتبه؛ بعكس المرأة التي أخذت تخرج من بيتها ومن مكتبها لتحفر في الصخر لنيل حقوقها. ولذلك فليس بالمستغرب أن يقول معالي وزير الخدمة المدنية، للمهندسين الذين قابلوه في الوزارة، لماذا تتجمهرون مثل النساء؟ المهندسون غضبوا، ليس من عدم قبول الوزير معروضهم الذي يحتوي على مطالبهم، ولكن غضبوا أكثر لتشبيههم بالنساء. وعليه فليس بالمستغرب أن تحصل النساء على حقوقهن، ويحرم المهندسون من حقوقهم، فالنساء تعودن على انتزاع حقوقهن أما الرجال فتعودوا على مطاردتهم لإعطائهم حقوقهم، التي بدأت تتقلص وتختفي مع مرور الوقت وتعقد الأمور الحياتية، التي لم يصاحبها تدريب أو مراس في مجال المطالبة بالحقوق كما هو حاصل مع النساء، اللواتي تفاجأ بهن معالي الوزير ومعه غالبية المجتمع الذكوري.

إن ما نشاهده ونلمسه الآن من حراك نسائي وذهاب النساء لمراكز الانتخابات البلدية للمطالبة بممارسة حقهن الطبيعي والوطني في الترشيح والانتخاب، وأخذ مواقعهن الطبيعية في مقدمة قاعات الندوات الفكرية والثقافية والأمسيات الشعرية، جنبا إلى جنب مع أشقائهن الرجال، ما هو إلا بداية الغيث، التي استسقته التنمية البشرية السعودية.

إن ما يحدث في المملكة من حراك نسائي في مجال الحقوق، هو نتاج ورطة تنموية، فرضت عليها فلسفتها وقيمها الإنسانية بدل أن تفرض عليها عاداتها النابعة من خصوصيتها الجغرافية والتاريخية. إن من يحاول أن يفسرها على أنها مؤامرة خارجية أو داخلية يراد بها إخراج المرأة عن دورها التقليدي، إنما يجهل الطبيعة البشرية وسنن الله في خلقه التي لن تجد لها تبديلا أو تحريفا. فالتنمية كل متكامل لا يمكن أن يستفيد منها نصف المجتمع ويحرم منها نصفه الآخر. وما نشاهده من حراك نسائي دؤوب ما هو إلا شاهد عيان على نجاح وشمولية التنمية السعودية.

فطبيعة الأشياء في الحياة تفرض علينا منطقها، ولا نستطيع أن نفرض عليها منطقنا. فلنا الخيار أن نبدأ بالتنمية أو لا نبدأها؛ ولكن ليس لنا الخيار، في أن نختار كيف ستكون نتائجها أو لا تكون. فخيارنا الطبيعي للتنمية بأن نكون، لا ألا نكون؛ فلنكن كما اختارت خيارات تنميتنا أن نكون، خير لنا من ألا نكون.