التنمية هي النتيجة لخطة الإصلاح العامة، وإذا كانت مسؤولية الدول تجاه التنمية تتمحور حول التخطيط والتنفيذ لتحقيقها، فإن الإعلام اليوم يمثل شريكاً أساسياً في تحقيق هذه التنمية، فمن دون وسائل إعلامية تسمح للرأي العام بالتشكل؛ لن يتم تحقيق (الاتصال) الجماهيري الإيجابي لتحقيق الهدف المنشود، وهو تحقيق التنمية البشرية بكل أبعادها، ولا سيما أن المشكلات (العويصة) في العالم العربي لا تتوقف عند السياسة والاقتصاد فحسب، بل تمتد إلى الثقافة والإعلام والمعرفة أيضاً، فمحاولات حجب منافذ المعرفة تمثل طريقاً سالكاً للتجهيل الاجتماعي، فتكون النتيجة هي عدم التعاطي مع الإعلام بفاعلية، أو يتم التعاطي معه بطريقة التوجس والريبة وعدم الثقة، وخاصة أنه وسيلة لنقل المعرفة وتشكيل الآراء والأفكار وتوضيح الحقائق وأبعادها.

ويمثل الإعلام عامةً رأس الحربة بالنسبة للاتصال بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، وبما أنه يعكس الصورة-كمرآة- فإنه يمكن أن يؤثر في حقيقة هذه الصورة ومصداقيتها بزيادة حجمها أو نقصانه، وبذلك لا يمكن أن نستبعد كون الإعلام سلاحاً ذا حدّين، ولا سيما أن من طبيعة وسائل الإعلام تناولها لمواطن الضعف والخلل والقصور، إلا أنه في المقابل (شيء) يمكن توجيهه والتحكم به إذا ما أحسنا صنعاً، وفهمنا أن رسالة الإعلام هي تزويد المجتمعات بالمعرفة التي يمكن أن يتم قبولها على أنها حقائق أو رفضها على أنها أوهام! ولا يكون الاتصال في الإعلام ناجحاً وفاعلاً ومؤثراً، إلا إذا كانت وسائله مواكبة للحدث والتطور الاجتماعي، وكانت كوادره على قدر كبير من الاستعداد والاحترافية؛ فدور الإعلام في التنمية ينحصر في توجيه وتشجيع الفرد والمجتمع للانخراط في خطة التنمية وتمثيلها بفعالية عن طريق جعلها قضية رأي عام، فالإعلام يفترض أن يوجه ويخيِّر لا أن يفرض أو يسيِّر. ومع ثورة الاتصالات التقنية التي نعيشها اليوم أصبح الحجب المعرفي وتزييف الحقائق جزءاً من الماضي، حيث استطاعت التقنيات الجديدة أن توجد أشكالاً جديدة من الاتصال والتواصل الرقمي لا يمكن سد منافذها مهما يكن الأمر؛ ولذلك كانت (الغلطة) الكبيرة جداً لدى الأنظمة السياسية العربية هي محاولة حجب وسائله، وهذا التصرف يشبه محاولة تغطية الشمس بغربال، إلى أن أسقط الإعلام جمل الأنظمة بما حمل!

وإذا كانت وسائل الإعلام تعمل كـ"خارطة طريق" للمجتمعات للاتجاه نحو تحقيق خطط التنمية فإن الطريقة المثلى للفاعلية الإعلامية هي انعكاس الإعلام كصورة للإصلاح بكل ما يحمله من شفافية ورقابة ومحاسبة وتطلعات نحو المستقبل، وهنا تكون التنمية نقل المجتمع من حالة إلى حالة أفضل بالتدرج بعيداً عن التغيير الراديكالي المربك، ويكون الإعلام الشريك الأساسي في إيصال الفكرة والتوجيه نحو طريقة التنفيذ المرادة وإتاحة سبل الاختيار.

وبما أن رؤوس الأموال السعودية تعتبر شريكاً أساسياً في صناعة الإعلام العربي، فإن ذلك لم ينعكس على الإعلام الداخلي الذي ما يزال بعيداً عن الشراكة التنموية، على الرغم من الخطوة الجيدة التي تحققت-للصحافة تحديداً- خلال السنوات العشر الماضية، حيث أفرزت حراكاً ثقافياً هو انعكاس للحراك العالمي الذي أفرزته مراحل الحداثة وما بعدها، غير أن هذه المكتسبات يفترض أن ترتبط بالتنمية ولا تنفصل عنها، فالإصلاح المنشود لا يمكن أن يتحقق دون تشكل رأي عام حوله، وتشكُّل الرأي العام لا يمثل إعاقة للإصلاح بقدر ما يمثل خطوة للاندماج في الإصلاح ذاته من خلال الإعلام، ونتذكر خلال العقد الماضي أن كل المشاريع التنموية-الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية- دعمها وكرس وجودها تناولها في الصحافة والإعلام، على الرغم من عدم تحقق بعض المشاريع التنموية على أرض الواقع. غير أن مجرد الاختلاف والاتفاق الاجتماعي حولها هو دلالة على أهمية ترسيخ الشراكة بين الإعلام ومؤسسات الدولة من أجل تحقيق التنمية، إلا أن هامش الشفافية ما زال بسيطاً، مما يؤثر سلباً على إبراز الإعلام لنقاط الضعف والقوة وبالتالي يؤثر على استخلاص قراءة واقعية، إذ ما زال تعامل كثير من المؤسسات مع وسائل الإعلام يوحي بوجود علاقة مضطربة قائمة على التوجس والريبة من إبراز نقاط الضعف من جهة مع حرص على إبراز صورة متضخمة من جهة أخرى، وهنا تختفي الصورة الواقعية التي يفترض أن تبرز كانعكاس لنتاج المؤسسات وجهودها.

إن من الخطأ النظر إلى الإعلام على أنه ترف زائد عن الحاجة، فهذه النظرة كفيلة ببقاء وسائل الإعلام تحت سقف التقليدية وعدم الفاعلية والبعد عن المواكبة والاحتراف، بل إن الوعي بالحاجة إلى إعلام محترف هو وعي بالضرورة بإيصال الرسالة والصوت والكلمة، وكلما زادت القيود على الإعلام قلّت فاعليته وأهميته، فالإنسان هو المستهدف من عملية التنمية، ولذلك لا بد أن تكون هناك رسالة إعلامية هي لب التنمية المراد تحقيقها والتوصل إليها كهدف عبر التأثير الإيجابي على الأفراد لدفعهم للانخراط في عملية التنمية بمجمل أهدافها، ولذلك فإن العلاقة بين خطط التنمية والإعلام علاقة وثيقة تصاب مفاصلهما بالكسل إذا لم يتفاعلا ويتحدا كخطين متوازيين لا يتقاطعان ولكن يسيران جنباً إلى جنب بشكل مستقيم يوصل إلى الهدف، ولذلك نلاحظ أن الخطط التنموية الكبرى للدول تدعمها آلة إعلامية ضخمة توضح الغايات والخطط والأهداف ليتم الاتجاه الاجتماعي إليها دون قسر أو إجبار، وبالتالي يتقدم الفرد بفعل هذا التفاعل ويحقق المجتمع ذاته على كافة المستويات، وهنا أستطيع القول إن الغاية من ارتباط الإعلام بالتنمية هي تكوين تصورات مقنعة، تتحقق هذه التصورات على أرض الواقع بعد الاقتناع بها حين تتحول إلى سلوك اجتماعي عام، وإذا ما أردنا الاستفادة من أثر الإعلام الاجتماعي على التنمية فعلينا الالتفات نحو مسألة الاحترافية من جانب والشفافية من جانب آخر لنصل في نهاية المطاف إلى حقيقة مفادها أن التنمية لا تتحقق دون جسر للعبور.. هو الخطاب الإعلامي الحر والمحترف.