نعرف أنه ليس من السهل تربية الأبناء في زمننا المشحون باللهثة وراء الحياة وتوترها الذي صنعناه نحن بأنفسنا. وفي المقابل ليس من الصعب أن نربي أبناءنا تربية جيدة مهما كانت ظروف (صباحاتنا) المهرولة التي تبلورت تهرباً منا في رحلة مثيرة لواقع الحياة المعاصرة التي تحتاج منا تهيئةً مناسبة للأجيال القادمة للتمرس على مواكبتها والتعايش معها بصفة عامة.

علماؤنا الصغار - إن جاز لي التعبير - بل هم كذلك، نجد أن خصائصهم العقلية قبل دخولهم المدرسة تشبه طريقة العلماء في البحث العلمي، فهؤلاء الأطفال يبحثون عن ومضة الحقيقة والفهم والبحث عن الأسباب وتقويم المعلومات وسبر أغوارها، فنجدهم يحلقون دوماً بين الخيال والحقيقة للبحث عنها، ويتعمقون في أسئلة التفكير بأنواعها، يحدها الاستفسار عن الكون وظواهره والحياة ومكوناتها وماهيتها..!

ثم تأتي سن السادسة والموعد المرهون بالمستقبل بدخول المدرسة التي تبدأ ببرمجة الأذهان تلقيناً وحفظاً، فيصاب (الإنسان) الصغير حجماً والكبير عقلاً بردة فعل من الأنظمة الصارمة والمناهج والمعلم والمقرر الدراسي وطرق التدريس البدائية التي لا تتوافق مع أبعاد ونظرة ذلك الطفل المفكر فعلاً، حتى يندمج ويتقولب لديه هذا المفهوم للتعلم ويتكيف معه، مع ما يطالب به معلمه، وما يفرضه عليه الكتاب والمنهج المدرسي فقط، وذلك هو النمط السائد لتعليمنا والمفروض على آبائنا منذ دخولهم المدرسة حتى تخرجهم من الجامعة والمستقبل ومخرجات تعليمنا تثبت ذلك حتى تاريخه! إذ تبقى طرق التدريس وتلبية احتياجات الصفوف الأولية مرحلةً وعمراً ترديدية ببغاوية تشحن الأذهان، وتملأ مستودع الذاكرة، ويصبح (المتفوق، الموهوب، الدافور..!) هو الببغاوي الأزهى ألواناً وتغريداً بين أقرانه، فتلك الطرق أشبه بوسائل غسل الدماغ المؤدية إلى قولبة العقل نحو اللا تفكير فقط!

تؤكد مربية الأطفال اليابانية ميوكي كاسوغا "تبدأ مرحلة رياض الأطفال في اليابان من 3 - 5 سنوات، وخلال تلك المرحلة يتم تدريب الأطفال على التعاون وتنمية الشعور بالجماعة، والمسؤولية تجاه المجتمع والبيئة المحيطة بهم، والتعليم في رياض الأطفال يسترعي أن يفهم المعلم طبيعة كل طفل، وأن يراعي توعيته وتوجيهه من خلال الطبيعة المحيطة به". وتؤكد على "مبدأ القائمين على أن الطفل يتعلم من خلال اللعب"، مشيرة إلى أن التعليم بالترفيه عنصر أساسي لتعليم الأطفال، والمواد التي يدرسونها هي الرياضة والبيئة والصحة والعلاقة مع المجتمع، وتعلم الحرف والفنون والسياحة والتراث الياباني. وأشارت إلى أن "المعلمين يعلمون الأطفال الثقة بالنفس وحب الناس، والأخلاق الحميدة وحب التراث الياباني، كما تقوم هذه الرياض بتطوير اهتمامات الأطفال بالأشياء التي حولهم مثل الطبيعة، ومعرفة كيف تتطور وتتحول في المواسم والفصول، وكثيراً ما تشاهد مجموعة من أطفال الروضة مع مدرساتهم يسيرون بمجموعات متراصة في الطرق والحدائق وحول الأنهار والجبال". وتضيف "يجب تمرين الأطفال على مهارة الاستماع والإلقاء والتعبير اللفظي، وليس غريباً أن تجد طفلا يلقي كلمة ارتجالية أمام حشد كبير من الناس بدون تردد ولا خجل".

وتختم بأن رياض الأطفال اليابانية تهدف إلى تنمية قدرات الأطفال على التفكير السوي والسلوك الإيجابي، والمقدرة على التعبير، ومساعدتهم على النمو، وتطوير قدراتهم العقلية، وتركز على تعليمهم القيادة والانضباط. ذلك يدعونا إلى الدخول في أسئلة واقعنا التربوي والتعليمي: كم من الآباء اهتموا بتنمية قدرات أطفالهم قبل الدخول للمدارس؟

وكم من الآباء ترك عمليات التعلم تعتمد على مدارسنا فقط؟ وكم من الآباء يتهرب من مسؤولية أطفاله وترك الجمل بما حمل حتى دخول أطفالنا المدارس ظناً أنها البيئة الأصلح والأنسب؟

تنمية قدرات الأطفال والاهتمام باتجاهاتهم واستعداداتهم مبكراً مطلب مهم من الوالدين قبل دخول المدارس وبطرق خاصة من الأنشطة التعلمية الذاتية، مثل القراءة الحرة، وزيارة حدائق الحيوان وتأملها، ومنحهم أوقاتاً للنقاش وإدارة حوار وتعلم أسلوب حل المشكلات وتنمية المهارات اليدوية، ودعمهم ببعض البرامج التقنية الحديثة التي تزيد من تنمية مهارات التفكير، فكلما كان طفلك مستعدا لمواجهة تحديات أسئلته ومرحلته زادت نتائج نجاحه وشعوره بالسعادة. إذ إن المهارات التي سيتعلمها ستساعده على تفجير أقصى طاقاته، وتجعله ناجحاً في حياته على جميع المستويات الأكاديمية أو النفسية، وبلوغ الذكاء العاطفي والانفعالي وتحقيق النجاح في جميع المجالات، لذلك يركز كثير من التربويين على مسألة التهيئة والمساحة الكافية للطفل قبل دخوله المدرسة لمواجهة هذا الحدث الهام في حياته، ولاسيما أن مدارسنا مازالت تعاني من ضعف الجذب للأطفال في هذه السن وفي تفهم مراحل نموهم واحتياجاتهم واستعداداتهم، ولا تصل للإقناع نفسياً أو تربوياً للحرص على إعداد أطفالنا لعالم الغد بكل ما يحمله من تحديات وإكسابهم خصائص ومواصفات "إنسان القرن الحادي والعشرين"، بدلاً من أن يستمروا ببغاوات تحت أسر تعليمنا!