رغم أن أحداً من عائلته لم يفض له بذلك إلا أنه شعر في قرارة نفسه أن حصوله على بعثة لدراسة الماجستير في أمريكا لم يكن خبراً ساراً لهم. الجميع كان ينتظر تخرجه من البكالوريوس لعله يحصل على وظيفة تدرّ دخلاً إضافياً للأسرة الكبيرة التي لم يعد راتب والده الضئيل كافياً لمصروفاتها المتزايدة. ولكن حلم الابتعاث بدا لامعاً ومغرياً بينما حلم الوظيفة يبدو رتيباً وقاتماً. شعر أن تخليه عن حلم دراسة الماجستير سيدخله في أنبوبٍ ضيق من الكدر والإحباط لن يخرج منه أبداً وسيظلّ يراوده لسنواتٍ طويلة. قرر بعد تفكير طويل أن يتقدم للحصول على بعثة ووظيفة معاً ثم يرى كيف تسير الأمور، ولما ورد اسمه في قائمة المرشحين للابتعاث قبل أن يحصل على عرض وظيفي من أي جهة حكومية أو خاصة فكّر أن ذلك يحمل إشارة قدرية تحثّه أن يسلك هذا الطريق. ولكي يخفف من شعوره بالذنب والتخلي عن مساعدة أسرته تعهّد على نفسه أن يقتطع من مكافأة ابتعاثه مبلغاً يبعث به لأبيه كل شهر.

سافر من قريته البعيدة إلى الرياض لإتمام إجراءات البعثة. فوجئ أن وزارة التعليم العالي اختارت له معهداً لدراسة اللغة في مدينة باهظة التكاليف مما يعني أنه لن يتمكّن من توفير أي مبلغ لأسرته. جاهد لتغيير معهد اللغة، واضطرته صعوبة الإجراءات إلى أن يقضي عدة أيام أخرى في الرياض مقيماً في بيت أحد أقربائه. واجهته أبوابٌ موصدة في وكالة الوزارة لشؤون الابتعاث وإجابات طاردة من مسؤوليها الذي لا يخصصون سوى ساعة واحدة من وقتهم للقاء مرشحي البعثة كل يوم. عندما بلغه الدور أفضى بطلبه إلى المسؤول فلم يسمح له الأخير بإكمال كلامه، بل كال له نصيحة كلاسيكية ثقيلة من نوع (عندما كنت مبتعثاً مثلك .....الخ). طلب من المسؤول أن يحدثه على انفراد في مكتبه فرفض، فاضطر أخيراً أن يبوح له بالسبب الحقيقي الذي يدفعه لطلب العيش في مدينة صغيرة منخفضة التكاليف أمام بقية الطلاب الذين ينتظرون دورهم في السؤال وصغار الموظفين الذين يحيطون بالمسؤول. فحصل منه أخيراً على موافقة مهينة بتغيير مدينته ممهورةً بجرح صغير بدأ به رحلة الابتعاث.

شدّ رحاله وسافر. بدأت دراسته بعد وصوله بأيام. كان يقيم مع ثلاثة أشخاص آخرين لا يعرف منهم أحداً ولا يكاد يكلمهم البتة. يشترك الأربعة في حمامٍ واحد ومطبخ صغير وغرفتي نوم. كان هذا السكن يكلفه 200 دولار شهرياً فقط بدلاً من السكنى مع عائلة تكلفه 900 دولار. قام بكل ما من شأنه توفير أكبر قدر من مكافأته الشهرية التي تبلغ 1847 دولارا، فخرج بقائمة ثابتة: 200 دولار للسكن، 300 دولار للأكل، 100 للمصاريف النثرية، 100 دولار للكتب، 100 دولار لتذاكر المواصلات العامة. هكذا تسنى له أن يبعث ما يقارب الألف دولار شهرياً إلى أبيه في السعودية. كان هذا النظام الاقتصادي الصارم يعني أن ينفق أقل من عشرة دولارات يومياً للوجبات الثلاث. حاجته الشديدة للاقتصاد في الإنفاق جعلته يتجنب الاختلاط بزملائه المبتعثين لئلا يثير شفقتهم ولكنها سمحت له أيضاً بالعكوف طويلاً في المكان الذي يتيح له شرب القهوة والقراءة مجاناً وهو مكتبة الجامعة.

بعد مرور عدة أشهر بدأ يشعر بالضيق وعدم القدرة على التحمل. الطعام الرديء الذي يتناوله منذ ستة أشهر لا يقارن بما اعتاد على تناوله طيلة حياته في السعودية. اضطرته بعض المصاريف المفاجئة أن يبعث لأهله 800 دولار في إحدى المرات بدلاً من الألف المعتادة. ظنت أسرته أن في ذلك إشارة إلى صعوبة ظروفه وأن ما يبعثه لهم بدأ يرهق كاهله، فاتصلوا به وطلبوا منه التوقف عن ذلك، وأنهم سيتدبرون أمرهم لحين عودته. ولكنه رفض، وأصرّ على الاستمرار بتحويل المبلغ الذي وعد به أباه قبل سفره.

انتهت بعثته أخيراً بعد أن أنهى دراسة اللغة في ستة أشهر والماجستير في سنة ونصف. شعر يومها بالألم الشديد: هل كان طموحه بتجربة الدراسة في الخارج أن يعيش في هذا الوضع الذي يشبه لاجئاً وليس طالباً؟ وما فائدة التجربة إذا لم يتهيأ له الحد الأدنى من الظروف المناسبة للتجول والسفر؟ لقد صار يحفظ عن ظهر قلب الطريق من الجامعة إلى المنزل، ومن المنزل إلى السوبرماركت. ولا يكاد يعرف شارعاً آخر في هذه المدينة الصغيرة. هل هذا هو الابتعاث؟ لم ير من أمريكا سوى مدينته الصغيرة ومطار واشنطن العاصمة. نصيحة البروفيسور له بالتقديم على برنامج الدكتوراه في نفس الجامعة كانت تخزه كإبرة. أخبار ندرة الوظائف المتاحة في السعودية تزيده غماً. كان يعلم أن أهله فخورون به حتماً ولكنه يعلم أن فخرهم سيتبدد تدريجياً عندما يكتشفون أن الشركات لم تتلقفه فور عودته كما يظنّون.

تحققت كل مخاوفه فعلاً وانتهى به الأمر بعد ثمانية أشهر من عودته موظفاً في القطاع الخاص براتب لا يزيد عن زملائه الذي يحملون شهادة البكالوريوس بأكثر من 180 ريالاً. عندما يتحدث مع صديق له عن تجربة الابتعاث كان يقول: أسوأ أنواع الكدح.. هو كدحٌ لم تكن مضطراً إليه ولم يسفر عن شيء!