في الأيام القليلة القادمة سيصدر كتاب جديد للمفكر والمؤرخ البريطاني الأمريكي برنارد لويس بعنوان "نهاية التاريخ الحديث في الشرق الأوسط". الأكيد حيال لويس أن تحليله لما يحدث في بعض الدول العربية في غاية الأهمية فهو من جهة عالم ضليع بالتاريخ الإسلامي والعربي، ألّف فيه ما يتجاوز العشرين كتابا على مدار خمسين سنة. كما أنه من جهة أخرى يمثل وجهة نظر مختلفة خارجة عن السياق العربي وصراعه الأيديولوجي ومحدودية حرية التعبير فيه. ينتقد لويس كثيرا الغربيين الذين يتحدثون عن الإسلام أو الشرق الأوسط دون معرفة دقيقة. على مستوى آخر، يمتلئ بيت لويس بالتحف الإسلامية والزخارف والخطوط العربية وبعض الآيات والآثار مما يفسر جزئيا تعلّق هذا الغربي بهذه الحضارة على مدى عقود طويلة من الزمن.

سأترك تحليل الكتاب لحين صدوره ولكن المهم هنا هو حجم التغيير الذي أحدثته الثورات العربية في المنطقة لدرجة جعلت من هذا المؤرخ الكبير يعتقد أن حقبة تاريخية قد انتهت وأخرى قد انطلقت. كل شيء في هذه الحقبة الجديدة في بدايته ومن الصعب الحكم عليه ولكن الأكيد أن رمزيّات مهمة في التاريخ العربي قد تم إسقاطها. يجب ألا ننسى أن تغير الرموز في أي ثقافة هو أمر جليل يشير إلى تغيير كبير. للرموز تأثير هائل على روح الثقافة والتفكير الجمعي. دعونا نفكر في الأحداث الرمزية التالية ومدى التصاقها بالفكر العام ودلالتها على التغيير والانعطافات التاريخية. إسقاط جدار برلين ودلالته على نهاية الحرب الباردة بانتصار الغرب. إسقاط برجي التجارة في نيويورك ودلالته على الصراع بين التطرف الإسلامي والغرب. إسقاط تمثال صدام حسين في بغداد ودلالته على نهاية حقبة وبداية أخرى. في تركيا الحديثة حرص الثوار بقيادة أتاتورك على إجراء علامات رمزية لتدل على معان عميقة جديدة. تغيير اللباس، اللغة، كثير من المناسبات العامة من أجل إحداث قطيعة مع ماضي الإمبراطورية العثمانية وبداية العهد التركي الجديد.

الرمزية التي حققتها الثورات العربية الحديثة هائلة جدا لعل من أهمها أن الشعب يستطيع تغيير واقعه. على مدار التاريخ الإسلامي والعربي الطويل كانت جموع الجماهير والشعب خارج الفعل المباشر. كانت تدار بكثير من السهولة بفئات قليلة من النخب السياسية والتجارية.

كان الصراع يكمن بين هذه الفئات ولا يتجاوز دور الجماهير كونها أداة ضغط يستخدمها طرف تجاه الآخر. كانت الأوصاف الأكثر تعبيرا لهذه الجموع لا تتجاوز الرعاع والسوقة والعوام والغاغة. اليوم، مع الثورات العربية الأخيرة، تم كسر هذه القاعدة وتم فتح ذاكرة ثقافية جديدة ستؤثر بشكل عميق. ستفتح هذه الذاكرة طريقا فكريا واجتماعيا جديدا يبعث برسالة مهمة: نعم العرب يستطيعون التغيير. يستطيعون أن يغيروا واقعهم.

ليس الظلم قدرا لا يمكن تجاوزه وليس الاستبداد إرادة لقوى لا يمكن مجابهتها.

وليس الفساد مرضا لا علاج له. الجماهير اليوم تمسك زمام المبادرة والجميع يتبعها ويحاول تفسير ما تفعل.

هذه الرمزيات تحققت وما زالت تتحقق في كثير من الدول العربية. هذه الأفكار الجديدة هي التي تدخل للبيوت وتوقظ أرواحا وأجسادا طال انتظارها وتدفع بها للشارع لتغيّر الواقع. هذه الأفكار هي التي تدفع بالملايين لمواجهة الرصاص الحي والمدافع لتقول لا للظلم والاستبداد كما تقول لا لتراث هائل من التخذيل والتحبيط والتعجيز. تقول لا لثقافة هائلة تقول لا أمل ولا فرصة. ثقافة طويلة تقول للجموع إنهم مجرد كتل بشرية خطيرة على أنفسها وعلى الآخرين ما لم ترفع العصا فوق رؤوسها.

مع الاستقلال الحديث من الاستعمار تحققت رمزيات مهمة في التاريخ العربي ولكنها كانت موجّهة للآخر، تجاه المستعمر. اليوم الذات هي الوجهة. التغيير في الذات هو التغيير العميق والحقيقي والأصعب. من السهل على الأفراد والجماعات اتخاذ مواقف نقدية تجاه الآخرين ولكنه من الصعب جدا اتخاذ هذه المواقف تجاه الذات. الروح الجديدة في الدول العربية ستساعد كثيرا على تحقيق خطوات أعمق في طريق نقد الذات. الناس اليوم تتحرك لا بإشارات من قيادات منتفعة ولكن تحت دافع من البحث عن المصلحة. البحث عن المصلحة حسبة عقلانية وراقية خصوصا إذا كان تعريف المصلحة مبنيا على وعي وعقل. المصلحة تكمن في الحرية والمساواة. المصلحة تكمن في اختيار حكومة صالحة تستطيع إدارة شؤون المجتمع. المصلحة في الصالح العام والتماسك الشعبي والسلمية في التعبير. المصلحة في مكافحة الفساد والفاسدين ومحاكمتهم وإعادة أموال الناس للناس. المصلحة في التفكير في المستقبل والأجيال القادمة. الشعوب تعطي دروسا في غاية الدلالة والعمق.

التغييرات الرمزية تحتوي على أهمية كبرى فهي تكسر كثيرا من حواجز الماضي في نفوس الناس وتعطي مفعولا فعّالا على الروح الجماعية للثقافة والناس. التغييرات الرمزية تعطي للناس روحا جديدة وشعورا مبهجا بالتغيير والتطور والمستقبل الأجمل.

للتغييرات الرمزية قدرة على خلق روح جماعية فعّالة من العسير جدا خلقها، حيث تنتشي الشعوب ويتفاءل الناس ولكن كل هذا لا يكفي. كل هذا سيمثل روح البداية ولكن المسيرة لا بد أن تتحرك وفق وعي عميق ودراية راسخة بضرورات الإصلاح والتغيير. هذه المرحلة لا تزال في منزلة السؤال ولكن يبقى الأمل هو الخيار الوحيد.