كشفت أحداث العالم العربي خلال الأشهر القليلة الماضية عن ضعف نظام الدولة في عدد من الدول العربية، لعل أبرزها ليبيا واليمن، حين أصبح مصيرهما معلقاً بقرار شخص واحد بالتنحي أو الإصرار على البقاء. وبصرف النظر عما تتمخض عنه الأيام القادمة بشأن قيادة هذه الدول، فإن النظر في أوضاعها الاقتصادية والسياسية يكشف عن الحاجة إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة، والاقتصاد، لكي تتمكن من استعادة القدرة على البقاء والاستمرار وتجنب تصنيفها كدول فاشلة.
لننظر أولاً في تعريف الدولة الفاشلة. تختص المنظمة الأمريكية المعروفة Fund for Peace بمحاولة وضع منهج ومعيار للفشل تطبقه على جميع دول العالم. وحسب تعريفها فإن الدولة الفاشلة هي التي تفقد السيطرة على جزء ملموس من أراضيها، ولا تتمكن من مواجهة الظواهر المسلحة، بالإضافة إلى الانخفاض الكبير في مستوى المعيشة، وعدم قدرتها على معالجة ذلك. وهناك مؤشر سنوي تصدره المنظمة يرصد 12 متغيراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وتحدد بناء عليه مكان دول العالم على مقياس الفشل.
ووفقاً لهذه المعايير، تحتل اليمن، على سبيل المثال، المرتبة (17) على مستوى العالم في مقياس الفشل، وذلك قبل الأحداث الأخيرة التي أضعفت كثيراً من بناء الدولة فيها، وأدت إلى أن "ترتقي" اليمن عدة مراتب في هذا المعيار بسبب تفاقم الأزمة السياسية فيها، وتعطل الحياة الاقتصادية فيها، والتي كانت في تفاقم مستمر عاماً بعد عام، وتسير من سيىء إلى أسوأ. ولو اطلعتَ على تقييم تلك المنظمة للمؤسسات الرئيسية للدولة في اليمن، لوجدت حكمها قاسياً، ولكنه واقعي على الأرجح.
فما هو الحل؟ واضح أن اليمن تحتاج إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة من الأساس، فقد أسهمت عقود من سوء الإدارة ونقص الموارد والانهيار الاقتصادي، في إحباط واسع النطاق في تلك المؤسسات. ولكن من يمكن أن يقوم بهذا الدور؟
يدور في اليمن جدل منذ سنوات حول العلاقة بين الأمن والإصلاح والتنمية الاقتصادية. فيرى البعض أن الضعف الاقتصادي هو السبب في تفاقم الأوضاع الأمنية وعدم الاستقرار، ووفقاً لذلك، تطالب الحكومة اليمنية شركاءها وأصدقاءها بالعطاء بسخاء لكي تتمكن من تسريع عجلة التنمية. وترى أن النمو الاقتصادي هو ما سيمكن الحكومة من استعادة الاستقرار والأمن، لأن المواطن الذي يتمتع بثمار النمو الاقتصادي لن يسعى إلى زعزعة استقرار الوطن ولن يكون أداة طيعة في أيدي القوى التي تعمل على ذلك.
وبالمقابل يرى أصدقاء اليمن، وشركاؤه في التنمية، أن الاختلال الأمني هو ما أدى إلى ضعف النمو الاقتصادي، وأضعف من جاذبية اليمن للمستثمرين، وجعل من الصعب إيصال المساعدات التنموية إلى المناطق النائية.
وفيما يتعلق بالإصلاحات، ترى الدول المانحة، أن بطء تنفيذ الإصلاحات قد أضعف ثقة المواطن والمستثمر الأجنبي على حد سواء في الاقتصاد اليمني، وأن الفساد أصبح مرضاً مزمناً في كثير من الإدارات الحكومية. وفي المقابل يرى المسؤولون اليمنيون أن تنفيذ الإصلاحات يتطلب توفير الموارد المالية اللازمة لذلك، وبدون تلك الموارد لا تستطيع الحكومة أن تنفذ الإصلاحات أو تقضي على الفساد.
وقد وصل الكثير من اليمنيين إلى قناعة مفادها أن اليمن قد وصل إلى مرحلة لا يستطيع أن ينهض من كبوته بنفسه، وأنه أصبح يحتاج إلى مساعدة خارجية، ليست مالية فقط بل إدارية واقتصادية. ويستشهدون ببرنامج مارشال الذي تبنته الولايات المتحدة لإعادة إعمار ألمانيا، وبالإدارة الأمريكية لليابان، بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، وهما البرنامجان اللذان أسهما في إعادة بناء هاتين الدولتين بحيث أصبحتا طوال عدة عقود أكبر اقتصادين بعد الولايات المتحدة. وبالمقابل، اجتمعت الدول المانحة وتبنت عدداً من التوصيات تسمى أحياناً بـ "مبادئ باريس" أو "مبادئ أكرا" تحث المانحين على عدم الاستجابة لمثل هذه المقترحات، وترى أن من المهم أن يقوم اليمنيون ببناء بلدهم بأنفسهم، وأن يسعى المانحون إلى إعطائهم القدرة على تحقيق ذلك، ويتجنبوا بناء مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة القائمة، مهما كانت ضعفية. وربما استشهد أصحاب هذا الرأي بعدد من التجارب الدولية التي استطاعت فيها دول فقيرة وضعيفة النهوض بنفسها، بمساعدة سخية من الخارج، ولكن بالاعتماد على قدراتها الذاتية على الإدارة. وأبرز أمثلة على ذلك هي كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة.
وقد أصبح الجدل يدور في حلقة مفرغة على هذا النحو لعدة سنوات.
وأحد أهم أسباب الفشل في الوصول إلى حل وسط هو أن المؤسسات التي عادة ما تقوم بدور الوسيط لم تنجح في اليمن في القيام بهذا الدور. فدور البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة في اليمن لا يمكن مقارنته بدور هذه المنظمات في الدول الأخرى، على الرغم من أنهما تنفقان بسخاء، نسبياً، على مشاريعها في اليمن. وبالمقابل، كان للبنك الدولي الدور الأكبر في إعادة إعمار أوروبا وترميم اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه في اليمن لاعب ثانوي، كما هو في مصر وتونس وليبيا وسائر الدول العربية التي تمر بأزمات اقتصادية وسياسية حالياً.
وأمام فشل المنظمات الدولية، فليس أمام اليمن إلا الخيارات الصعبة التي ذكرتها، إما أن يحاول، مرة أخرى، بقدراته الذاتية، أن يعيد بناء مؤسسات الدولة من الصفر. أو أن يجتمع مع الدول المانحة مرة أخرى، بعد خروجه من محنته السياسية، لإعادة النظر في سياستها نحو تمويل تنمية اليمن وبناء مؤسسات الدولة.