أشبه ما تكون بألغاز لا حلول لها، تتحرك بعض إشكالاتنا التنموية، وذلك حين نتعصب لسياقاتنا وننكر أي سياق للإجراءات والقرارات الحديثة التي لا بد من الاعتراف بسياقها وخلق المناخ الأنسب لها، والجميع يلاحظ أن أطراف المعادلة لدينا من قوة مالية وبشرية واستقرار وحرص على النهضة قائمة بامتياز، ومع ذلك فلا تزال الأمور تتحرك بكثير من التعقيد والازدواج، ولا تزال شروط ما قبل المؤسسة هي التي تحظى بقوة وحضور أوسع في زمن المؤسسة.


يحدث هذا مع كثير من الأنظمة والفعاليات التي نتوقع أنها تمثل حلولا سحرية وإدارية لقضايا تتعلق في جانبها الأول والأبرز بالوعي كقيمة إنسانية حضارية هي التي تسهم في إدارة المجتمعات لمواقفها ورؤاها التي تدير من خلالها مصالحها وجدواها، فنحن لا نتوقف مثلا عن الشكوى من البطالة ثم نرى أن الحل يكمن لدى وزارة العمل أو لدى وزارة الخدمة المدنية، فيما تمثل هاتان الجهتان مجرد جانب إجرائي من الحل، بينما تكمن الحلول والأسئلة والكبرى في الوعي العام حول هذه القضية، فالعامل الأبرز في تفتيت صخرة البطالة ليس قرارا وزاريا من هذه الوزارة أو تلك ولكنه وعي عام يعيد تعريف قيمة العمل ويعيد تعريف فكرة (الكسب) في الوجدان الشعبي الذي ما زال يرى أن شروطه التقليدية هي التي يجب أن تحدد مسار هاتين القيمتين دون أدنى اعتبار لما تحتاجه هاتان القيمتان من إفسـاح لسياقاتهما وقيمهما التي تنطلق منهما.


فالعمل بمفهومه العالمي هو القيام بمجهود محدد ومرسوم مقابل الحصول على كسب معين ومحدد في دائرة تفاعلية ينتفع كل طرف منها بما يقوم به الطرف الآخر. والذين يعارضون مثلا عمل المرأة في محلات الملابس النسائية ويسهمون تبعا لذلك في فتح هوة جديدة للبطالة هم إنما يطبقون شروطهم وسياقاتهم في غير مكانها مما أوجد هذه المعادلة المرتبكة التي تمنح المحظور مزيدا من الوقوع فيما تنمح الممانعة مزيدا من القوة. وتصريح نائب وزير العمل عن وجود أكثر من مائتي ألف عاطلة معظمهن من حاملات درجة البكالوريوس هو أمر في الحقيقة ليست المسؤولة عنه وزارته، وإنما قيم وثقافة العمل في الوجدان الشعبي التي لم تتعرض لعملية تنقية وتصفية من شوائب أفكار ما قبل المؤسسة. فالعمل في الدولة الحديثة سياق قائم بذاته وبشروطه وبمبرراته وليس صالحا لإدارته وفق شروطنا التقليدية بما أن الزمن لم يعد كما كان والبيئة التي نعيشها ليست هي البيئة القديمة. إن شروطنا وسياقاتنا ليست هي الأنسب لإدارة احتياجاتنا الجديدة، والتي ستظل تنتج لنا إشكالات واسعة إذا ظلت هي المسيطرة على إدارة قضايانا الجديدة.





على امتداد الأسابيع الفائتة كان نظام (ساهر) المروري الجديد هو الأكثر حظوة بالحديث والنقاش في أوساط مختلف الشرائح في السعودية، ومثّل أمرا أشبه ما يكون بصدمة جديدة جاءت خارج كل السياقات التي اعتاد السعوديون عليها في مختلف الأنظمة المرورية، فهو أول تطبيق نظام يتم بشكل آلي بمعنى أن ليس لأحد دور في توجيهه إلا التوجيه التنظيمي الأول، والذي جاء محملا بثغرات عدة نظرا لارتباك السياق بين ذهنية الآلة وذهنية إدارة الفرد. فمثلا تتم عملية ضبط المخالفة وتسجيلها بشكل آلي فيما تتم عملية الاعتراض عليها بشكل أقرب ما يكون للشكل القديم، وهو ما يوجد إشكالية تقف على مستويين، فالضبط الآلي يفترض به أن يوجد مسارا خاصا بالاعتراض ليكون كذلك اعتراضا آليا، وبذات الصرامة والحيوية التي تكون بها عملية الضبط، ولذلك سوف يقع ساهر في دائرة من المتناقضات التي سيتحول معها الناس إلى ضحايا للشق البيروقراطي من العملية. إن كثرة الحوادث المرورية التي يعيشها السعوديون ليست بسبب غياب نظام آلي للمراقبة، وإنما لأن قيادة المركبة تتم لدينا وفق ذهنية عشوائية لا تعترف بأنظمة ولا بمحددات لا في السرعة ولا في التجاوز ولا في الوقوف، وهو ما يجعلها أكبر مصدر للحوادث المرورية.


فالسيارة التي باتت بالنسبة لنا أبرز وأكثر وسائل القتل في الشارع السعودي هي ذاتها التي يستخدمها اليابانيون والصينيون والأمريكان والإنجليز وفي ذات الوقت يستخدمون التنظيم المروري العالمي الذي نستخدمه نحن أيضا، إلا أننا نتفوق عنهم جميعا بعدد القتلى الذين يسقطون جراء الحوادث المرورية.


لعل الميزة الأبرز في نظام (ساهر) أنها ستمثل أول تدريب على المواجهة بين سياق وثقافة اجتماعية لا تعترف بالتنظيم الصارم، وبين نظام تحركه وتديره الآلة، وسيمثل فرصة لاكتشاف السؤال الكبير الذي يطالعنا أمام كل قضية لا تحظى بقبول اجتماعي وهو سؤال: هل المؤثر في قراراتنا هو الموقف والقرار الإداري الصارم، أم القبول الاجتماعي؟ وإذا ما استطعنا إقرار نظام (ساهر) بعدد تجاوزه لما فيه من ثغرات، فسوف يمثل اختبارا حقيقيا للأدوات التي يتم بها التعامل مع الاحتياجات التي تمثل تأرجحا بين القرار الإداري والقبول الاجتماعي.


إن إقرار (ساهر) بعد خلق سياق إداري له، سوف يمنحنا فرصة التعرف على الباب الحقيقي الذي ترد منه الحلول الصارمة والتي لا تعتدي على أحـد لكنها تحفظ للجميع حـقهم في الاختيار، وتحـت مظلة المؤسسة.