"فكروا بالجيل القادم، لا يهم الجيل الفائت"... كلمات قالتها أم محمد بحرقة، وهي تروي إلى "الوطن" من داخل "مركز الأورام السرطانية"، بالمدينة المنورة، معاناة ابنها محمد، البالغ من العمر 5 سنوات، مع "المرض الخبيث".

ترحال دائم

من وراء حزن عميق، انطلقت أم محمد في سرد قصتها مع مرض "سرطان الدم" الذي "أنحل" جسم ابنها، قائلة "قبل ثلاثة أعوام تقريبا، بدأ طفلي يعاني من أعراض السخونة مع فقدان للشهية، تبع ذلك انخفاض في الوزن، وتضخم في الغدد اللمفاوية. وبعد صولات وجولات من المراجعات للمستشفيات تبين أن ابني مصاب بسرطان الدم. وللتأكد من حقيقة ذلك المرض، الذي جاء نبأه كالصاعقة على الأسرة، اضطررنا إلى السفر لمدينة الرياض، للحصول على تشخيص دقيق لحالته، فجاءت النتيجة مطابقة للتشخيص الأول"، مضيفة في سرد أوجاع معاناة ابنها "منذ أن تيقنا من النتيجة، ونحن في ترحال دائم، من المدينة إلى الرياض، لمتابعة الحالة المرضية للطفل، إذ قضينا في المرحلة الأولى من اكتشاف المرض 40 يوما في مستشفى الملك فيصل التخصصي، تبع ذلك العديد من السفريات، والتي بلغت حتى الآن 150 ساعة طيران". يضاف إلى كل ذلك "الاستيقاظ المبكر، والاستعداد من أجل وخزة إبرة في النخاع الشوكي، لتتم العودة مرة أخرى إلى مكان إقامتي في المدينة المنورة. ولك أن تتخيل حجم تلك المعاناة التي يعانيها طفل مصاب بالسرطان".

عبء مالي وأسري

أم محمد لم تقتصر معاناتها على الناحية الجسدية وحسب، بل ألقت تلك الرحلات المتواصلة بظلالها على الحالة الاقتصادية والاجتماعية للأسرة.

اضطراب نفسي

تكشف أم محمد عن وجه آخر لمعاناة طفلها، يتمثل في نظرة الناس لمفهوم "العلاج الكيماوي"، ذلك بأن عددا من المحيطين بالأسرة، يعتقدون أن هذا العلاج هو النهاية الحتمية للمريض، والمرحلة التي تسبق وفاته، وهو ما يجعل الأسرة تعيش قلقا واضطرابا نفسيا، في مراعاة الحالة النفسية للطفل، خوفاً أن تصل إليه تلك المفاهيم الخاطئة، خلال مرحلته العمرية المقبلة، مما يقتل الأمل بداخله، ويجعله يعيش قلقاً يومياً، يشعره أنه يختلف عن بقية أقرانه الأطفال.

ألفة رغم المعاناة

ومن داخل مركز الأورام السرطانية، التقت "الوطن" بالمواطن يوسف القرافي، الذي يروي حكاية الألفة والعلاقة الحميمة التي نشأت بين ابنه ماهر، ذي الـ 13 ربيعا، والكادر الطبي والتمريضي العامل بالمركز، مما ساهم في رفع الروح المعنوية له.

الحاجة لمراكز جديدة

عباس إبراهيم النخلي، الذي أجبرته ظروف ابنه الصحية، لأن يكون من مرتادي المركز بشكل مستمر، وذلك بعد أن أصيب طفله البالغ من العمر 3 سنوات بسرطان في البطن، يأمل في "إنشاء مركز متخصص لمرضى السرطان في المدينة المنورة والمناطق الشمالية، ولاسيما أن ذلك سيخفف من العبء والضغط الذي يعانيه المستشفى التخصصي بالرياض"، معتبرا أن "كل يوم يمر على المريض دون علاج، يتسبب في تفاقم الحالة الصحية لديه وتدهورها"، متسائلاً "كيف الحال، وأنا أضطر إلى الانتظار لمدة أسبوعين، حتى يأتي دوري في قائمة المراجعين"!. ما قاله النخلي، أكده رئيس المركز الدكتور زكريا هوساوي، الذي يشير إلى أن "كل ساعة تمر على مرضى السرطان، تساعد على انتشار المرض. وكلما تم الإسراع بعلاجه، كثر الأمل بشفائه".

طموح رغم الوجع

خلال جولة "الوطن" في أقسام المركز، كانت هناك شريحة أخرى تعاني من مرض لا يقل خطورة عن غيره، وهو "ثلاسيميا الدم ". وكان بين المرضى الفتاة "أمل"، ذات الـ 15 ربيعا، والتي أجبرها مرض الثلاسيميا على التردد على المركز بشكل مستمر، لتغيير الدم. وبالرغم من وطأة المرض، إلا أن ذلك لم يقلل من طموحها وتطلعاتها، لأن تصبح طبيبة في المستقبل. فيما تجاورها بالغرفة الطفلة "هديل "، في السابعة من عمرها، والتي كانت نظراتها لعدسة "الوطن"، تعبر عما يختلج بقلبها من آهات ذاقت مرارتها، إثر خطأ ارتكبه والداها، لا ذنب لها فيه، سوى أنها ضحية زواج الأقارب!.

خطة علاجية

عقب جولة "الوطن" على غرف المرضى، التقينا بعدد من الكوادر الطبية والتمريضية في المركز، حيث كانت البداية مع رئيسة التمريض، عواطف عبدالعزيز مدني، التي قالت إنه "بعد وصول المريض للمركز، وبعد تشخيص حالته، يتم تقيم وضعه من كل النواحي: النفسية، والاجتماعية، والمالية، لتتم بعد ذلك إحالته إلى القسم المختص بالمركز، حتى يتم إعداد خطة علاجية متكاملة له، مع تثقيف أسرته بمتطلبات المرض".

غياب الوعي الطبي

تؤكد مدني ـ التي أصبحت خبيرة في مرض الثلاسيميا والأنيميا المنجلية لعملها منذ تسع سنوات بالمركز ـ أن "غياب دور الأسرة، خاصة في الأمراض الوراثية، له دور كبير في تفشي المرض". وروت مدني ضمن حديثها إلى "الوطن"، قصة شاب راجع المركز لإجراء فحص ما قبل الزواج، إذ أثبتت التحاليل حينها أن زواجه بإحدى قريباته لا يتواءم صحيا، لوجود أمراض وراثية لديهما، غير أنه رفض المشورة الطبية حينها، ليعود بعد عام وهو يحمل طفلا يحمل ذات المرض، كان ضحية لزواج والديه الأقارب، رغم علمهما بخطر ذلك!.

المرض القاتل

رئيس مركز أمراض الدم والأورام، واستشاري طب الأطفال بمستشفى النساء والأطفال والولادة، الدكتور زكريا محمد هوساوي، أوضح أن "مرض السرطان من الأسباب الرئيسية للوفاة عند البالغين، وأصبح من الأمراض التي زاد انتشارها عند الأطفال في العقدين الماضيين".

نقصٌ في الإمكانات

ولكن، ماذا عن الحالات التي ترد المركز، خصوصا أن كثيرا منها يكون مستعجلا، ويتطلب علاجا بشكل سريع؟، يجيب الدكتور هوساوي موضحا أن "جميع حالات الأورام السرطانية للأطفال التي يتم تشخيصها تحال لمستشفى الملك فيصل بالرياض، غير أن تقليص عدد الأسرّة في المستشفى، ساهم في تأخر علاج عدد كبير من المرضى، إذ تم تشكيل عدد من مراكز الأورام في مناطق المملكة، ومن بينها المدينة المنورة، ويستقبل الأطفال المصابين بالسرطان، عدا سرطان المخ والعظام والعيون، والتي يتم استقبالها في مستشفى الملك فهد".

ازدياد في الحالات

يعود الدكتور هوساوي بذاكرته إلى الوراء، عندما كان "المركز يستقبل 30 حالة سنويا، وفي السنوات الأخيرة بات يستقبل بين 70 و 100 حالة سنويا للأطفال، فيما تتخطى الحالات الـ 400 حالة للكبار. وتشكل نسبة السعوديين 90 % و10% للمقيمين. فيما يعمل بالمركز ثلاثة استشاريين فقط", مضيفا "إن المركز يوفر جميع الأدوية الكيميائية الأساسية، لعلاج حالات سرطان الدم والغدد اللمفاوية، وبعض الأدوية لعلاج الأورام الصلبة، ويتم تحضير الأدوية الكيميائية بقسم الصيدلية بالطريقة السليمة طبيا، كما يتم بمستشفى الملك فيصل. إضافة إلى قيام المركز بتوفير الأجهزة الطبية اللازمة لذلك، وتدريب صيادلة متخصصين في مستشفى الملك فيصل التخصصي"، مبينا أن المركز "يتوفر فيه قسم لإجراء عمليات جراحة في حالات الأورام الصلبة، وكذلك للقسطرة الوريدية المركزية، التي تستخدم لإعطاء العلاج الكيمائي. كما أن المركز يضم أقسام أشعة مقطعية ورنين مغناطيسي، وأشعة نووية وصوتية"

حاجة ملحة

المرضى، كما الكادر الطبي والتمريضي، وكذلك الاجتماعي والنفسي، الذين تحدثت إليهم "الوطن"، أجمعوا على أن إنشاء مركز للأورام بمستشفى المدينة التخصصي أمر مهم للغاية، وأن ذلك من شأنه أن "يسهم في توفر فرص العلاج للمرضى بكل يسر وسهولة، ويزيح عن كاهل الأسر معاناة السفر والانتظار، وتكبد المصاريف المالية".