لا يزال الشاعر العراقي سعدي يوسف مخالفاً لمنطق العبارة الشائعة "من القسوة أو قلة الإحساس ألا تكون شيوعياً في شبابك، لكن من الغباء أن تظل على ذلك في سن الرجولة أو الكهولة"؟ لكن سعدي يكتب قصائده المتناثرة في مجموعتيه (قصائد الخطوة السابعة) و(الشيوعي الأخير)، بما يشبه رثاء تلك المرحلة، إذ إن الشاعر يتقمص ثوبا آخر شيوعيا، فيمر على الأماكن والناس غريباً، وحيداً إلا من ذكريات أمسٍ لم يبرحه بعد، ليطل على الأفكار كأنها فيصل، دون أدنى اعتبار للوقائع التي قلبت أحداثُ التاريخ مسارها ارتكاساً إلى أصل الفكرة الحلم التي اختبرت الواقع واختبرها على مدى أكثر من سبعين عاماً من قيام الشيوعية بدولها ومنظومتها.
وفي الشعر، يبقى الحلم اختباراً قائماً بغض النظر عن الوقائع والإحصاءات، ولا شأن للشاعر بنجاح السياسي أو فشله، ففي قصائد الخطوة السابعة، يقول:
أتمشى، وأمسك في كل كفٍّ عصا!/ عصوان تقودانني.../ البط والوز يمرح/ والسمك الحُلْمُ في القاع/ أمشي بلا هدفٍ/ قد، وقد، أبلغُ الجسرَ/ أو ساحة القرية.../ الشمس لم تبدُ حتى ولو لحظةً/ والغيوم التي تتهددنا بالسيولِ/ استكانت إلى هدأة العصرِ/ أمشي/ ولكن كعبَ حذائي رصاصٌ/ وأمشي/ ولكنني لستُ أخطو.../ .../ سأمضي، إذاً، حافياً!
بينما يثني في "الشيوعي الأخير فقط" على جوهر الفكرة التي لا يؤطرها تنظيم، فيقول:
قال الشيوعي الأخير:/ سأستقيل اليومَ/ لا حزب شيوعي، ولا هم يحزنون!/ أنا ابن أرصفةٍ/ وأتربةٍ، ومدرستي الشارع/ والهتافُ/ ولسعة البرد إذ يغدو شميماً... هنالك، إذن، بنية تحتية للمشاعر لا تبلى، مهما اختبرها الزمن، ومهما قال فيها أصحاب الاتجاه المعاكس، ومهما لقي صاحبها من عنت الزمان وصروف المعاناة، فالأصل أن الخيار الحر التزام طوعي، وليس اختباراً للفوائد الحالية، أو المستقبلية، كما أن الشاعر نفسه، هو نفسه، اختبار حي لهذه الأفكار، بما هو حامل للفكرة المطلقة القائلة بأحقية القيمة الأخلاقية للعدالة دون "فذلكات" القانون الوضعي المتغير في الزمان وفي المكان، فالبئر ذاكرة أولى في الأدب، مثلما الماء نظير الحلم في العلوم النفسية. ومثلما البرد يؤثر لتنكمش الأشياء والأعضاء، فإن البرد نفسه يعطي للأشياء والأعضاء طابعها الفيزيائي المشتد قوة وتحفزاً، على خلاف ما يعكسه الحر من كسل وتراخٍ: باطن كفي اليمنى يحضن ظاهر كفي اليسرى/ وأنا المتكمش برداً أسند رأسي، تعبان، إلى صدري.../ ساقاي تخشبتا، والقدمان تلبثتا/ لا أملك أن أتلع عنقاً، أو أومي.../ من أسأل أن يدركني وأنا أوشك أن أتطوح في البئر؟
وهنا يجد الشاعر مساحته البيضاء بين محيطات سوداء، من بحر وشجر، ليبحث عن تناص العبارة في تقاطع مع بدر شاكر السياب (الليل يُطبق.. فتشربه المدينة): الليل المطبق يُحكم أنشوطته أكثر،/ والأشجار السود (أُردد حتى الأشجار السود) تغيب عن الصورة/ والبحر المتموج في إحدى لوحات الحائط يدخل في طور سبات.../ لا صوت.../ هنا/ لا صوتَ/ هل القبر هو الفردوس.
وبالحنين الذي يستمر عابراً قطوع الغربة، وقواطع جبهات الحدود بين القارات والمناخات، يستذكر الشاعر أمس الفاو والبصرة، متلمساً بلسان ذاكرته وعينيه طعم السمك والروبيان، ولون الحنة، لكنه لا يجد ما يذكره بتلك الأشياء، سوى ناس الفاو، خالاته اللواتي سكنَّ الفاو، في مكان من جنوب العراق، في مكان ما من شمال الخليج، حيث الناس ما زالوا هناك، رغم تغير الأشياء في امتدادها الأفقي، الذي يضيق بالأرض الواسعة، الأرض التي يتصل بها الشاعر عبر ذاكرة تمتد وتمتد، ولا تصل:
وحناء الفاوِ/ كأسماك الفاوِ/ وملح البحرِ/ وروبيان البحرِ/ تناءت، حتى غابت في ما كان يسمى الفاو...... خالاتي المسكينات سكنَّ الفاو.
في الكتاب الأخير (الدامابادا)، أو كتاب بوذا المقدس، ننقل:
"كلُّ مخلوق فانٍ"/ مَنْ أدرك هذا، صار فوق الألمِ/ ها هو ذا السبيل القويمُ.
والكتاب، كما تشير العبارات، يدخل في باب الحكمة، بالزخم الذي نجده في شعر الحكمة ذي الباب الواسع في الأدب العربي، مثلاً.
الكتب الثلاثة صدرت عن دار التكوين في دمشق، 2010، على أن تصدر كتب الشاعر تباعاً، وبواقع عشرة كتب قبل نهاية العام، بعدما قطع الشاعر صلته بناشره السابق، دار الجمل.