العلاقة بين طوائف المجتمع الإسلامي ليست وليدة أيام أو سنوات، أو أنها كانت نتيجة لظرف تاريخي حصل لطائفة دون طائفة في العصر الحالي، وإنما تمتد تاريخياً بتاريخ الإسلام نفسه إلى الدرجة التي لا ترضى فيها كل طائفة أن تخرج نفسها من دائرة "الإسلام الحقيقي" ظناً في ذاتها وفي معتقداتها أنها تمثل الإسلام الصحيح. هذه الرؤية تتكرر في كل الطوائف بلا استثناء، وذلك بسبب عمق التداخل التاريخي بين ما هو سياسي وما هو ديني في التاريخ الإسلامي كاملا، ولذلك فقد صعب على كل الطوائف فرزالمشكلة الطائفية؛ والعجزعن فرزهذه الإشكالية الثنائية بين ما هو متعالٍ/ قدسي وما هو بشري/تاريخي، وهذا التداخل بينها، صنع العديد من الإشكاليات التي لم تُحل حتى الآن، ولعل التفكيرالطائفي أحد أخطر المشكلات التي تواجه المجتمعات الإسلامية الحالية في التمترس حول الطائفة دون رؤية عامة تجمع الطيف الإسلامي أو العربي أو حتى الإنساني بشكل أكثر اتساعاً.

أجدني مضطراً أن أضع عبارة "الإسلام الصحيح" بين مزدوجتين لأننا أمام مشكلة حضارية في رؤية الذات لذاتها على اعتبار أنها التمثيل الأسلم لما تراه صحيحاً. نحن هنا أمام كم هائل من عمليات القراءة والتأويل لكل ماله علاقة بهذا "الإسلام الصحيح" بالنسبة لكل طائفة. عمليتا القراءة والتأويل هاتان بالضرورة ستنتجان لنا إسلاميات عديدة، كل قراءة تظن أنها القراءة الصحيحة. هنا تتحول عمليات القراءة الثقافية والتاريخية وحتى الدينية إلى نوع من الدوغمائية الفكرية التي تبدأ من الذات ولا تستطيع تجاوزها إلى الآخر بوصف الآخر ذاتاً أخرى للذات الإنسانية. هذه الفلسفة (أعني تداخلية الذات والآخر) تغيب تماماً في الرؤى الطائفية، وإلا لما أصبحت طائفية. ينسحب هذا الكلام على كل الأيديولوجيات الفكرية والثقافية والدينية والسياسية بحيث تتحول المشاريع الفكرية والدينية من مشاريع جامعة إلى مشاريع مفرقة.

التمترس حول الذات (وكلمة التمترس أعنيها جيداً لما تحمله من إيحاءات حربية) جعلت كل مشروع يحاول أن يجفف منابع الاختلاف، يُجهَض تماماً من خلال مشكلة التمترس هذه، لأنها نوع من الرؤية الضدية تجاه الآخر. رؤية لا ترى في الآخر إلا الشر الكامن متى ما وجد الفرصة للانقضاض علينا فلن يوفرها، ولذلك فإن الإمعان في الضدية هو رؤية "شرانية" تجاه الآخر. الآخرالطائفي عدو في جلباب صديق، هكذا يتم التفكير من خلال النظرة التي ترى في كل علاقة "آخرية" حرباً طويلة المدى نحن في خندق من خنادقها أو على ثغر من ثغورها. التمترس هنا عبارة عن مَصَدّات ثقافية ودينية واجتماعية وسياسية تكون دون الآخر الطائفي تُصنَع بعناية فائقة بطريقة جدلية، وبنفس طويل جدا، مع الكثير من محاولات الإثبات الديني والثقافي، وربما مع نماذج من تصرفات المتطرفين من كل طائفة، حتى يصعب فيما بعد تفكيك أي مفهوم ينبني على رؤية طائفية تجاه الطائفة الأخرى. أنا هنا لا أستبعد أي طائفة من الطوائف عن هذا السلوك، بل إن جميع الطوائف بلا استثناء تصنع هذه الرؤية لتقف دون عمليات التبادل الثقافي بين كافة الطوائف التي يمكن أن يتحقق من ورائها ثراء فكري وثقافي للطوائف الأخرى فيما لو استطاعت التعايش فيما بينها.

الهيمنة الثقافية والدينية والسياسية لطائفة دون الأخريات سوف تلغي بالضرورة وجود الطوائف الأخرى. مفهوم التعايش مع الهيمنة الثقافية لطائفة ليس متحققاً على أرض الواقع، إلا مع دولة المواطنة التي تأسست مع مفهوم الدولة الحديث، والعالم العربي والإسلامي لديه نقص في تأصيل هذا المفهوم إسلامياً ومعرفياً، ولذلك تبقى إشكالية التفكير الطائفي أصعب المشكلات التي تواجهها دول المنطقة كافة. يصل ذلك إلى احتراب ثقافي وديني وسياسي، وربما عسكري في بعض حالاته التي لا تستطيع الدولة العربية كبح جماحه. الطائفية بالضرورة ضد مفهوم الدولة الحديث لأنه ضد مصالحها وضد وجودها الذي تحاول من خلاله الهيمنة الفكرية والدينية. ونماذج الاحتراب الطائفي السني والشيعي في العراق أقرب مثال على هذا التناقض في مواطنة الطوائف الإسلامية، والإشكاليات التي يحاول المتطرفون من الطائفتين: السنية والشيعية في الخليج العربي كاملاً مع بعض التدخلات السياسية التي تفسد المشهد الثقافي الثري في المنطقة يمكن أن تقود إلى جر الخليج العربي إلى بعض التوترات التي هو في غنى عنها، واستطاع طوال سنوات تجاوزها، إلى الدرجة التي سبق أن شهدنا قبل سنوات نوعا من التقارب بين المذهبين يمكن له أن يحقق نوعاً من التعايش الاجتماعي في حال لم يصل التوتر فيه إلى ما وصل.

إن من حق كل طائفة أن تطالب بحقوقها، ومطالبتها هذه لا تعني أنها تخرج عن إطار المواطنة الذي هو مكفول الحق. لكن ربما تتحول هذه المطالبة إلى نوع من التصادم حينما يتم التفكير من خلال الطائفة ذاتها برؤية طائفية بحيث تتحول المطالبات إلى هجوم ضدي تجاه الطوائف التي لم تمنحها جزءاً من حقوقها بسبب رؤية طائفية قاصرة. وهذا إغراق في الطائفية إلى الحد الذي ينفي معه مفهوم المواطنة من أساسه.

إن الخروج من أزمة الطائفة وإشكالية التفكير الطائفي هو في عدم التأثر بأي ظروف سياسية خارجية، ومحاولة تأصيل مفهوم التعايش الفكري والثقافي دون شروط إلا شروط المواطنة ذاتها، والتحول من إطار الدولة التقليدية إلى إطار الدولة المدنية وتأصيلها دينياً ومعرفياً، ومن ثم تطبيقها سياسياً مع إبقاء التنوع الثقافي الذي يثري المواطنة ولا يُضادُها.