على عكس ما كان راسخا في الأذهان عن الدور غير الحيوي لرجال الأعمال في المشاركة في التنمية الاجتماعية، أصبحت المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال من المبادئ التنموية المهمة التي يدعو إليها الكثيرون على المستوى العالمي وفي الدول الصناعية و التجارية الكبرى، حتى بلغت إلى هدف تحقيق تعاون متوازن بين كل من الدولة ورجال الأعمال والمجتمع، أي الحكومة و القطاع الخاص والقطاع المجتمعي، بل إنهم يراهنون على القطاع الخاص كونه الحل الحيوي الذي يعالج كثيرا من المشاكل: تقول "ميليسا بيرمان" الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "روكفيلر" الأمريكية: (إننا في المجتمع الأمريكي عموماً فقدنا قناعتنا بأن الحكومة هي المكان الذي تتم فيه الحلول للمشكلات الاجتماعية، فمن أيام ثورة ريجان فصاعداً انجذبنا إلى الرأي بأن القطاع الخاص هو الذي سيوجد حلولاً ابتكارية وفعالة، والحل الحيوي الوحيد الذي نراه الآن يتمثل في المشاريع الخاصة، والعمل الخيري الخاص لذلك ننظر إليه لحل المشكلات).

إنني أتساءل ما هو سر التراوح والتثاقل في المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال في بلدنا؟ لماذا التجار أو المقاولون منهم لا هم لهم سوى – البيزنس - وأن يزيدوا فقط من تكديس الأموال فوق الأموال في حساباتهم الخاصة موكلين كل ما يرتبط بالشأن العام للدولة؟ لعل البعض يعيد السبب بوجود تشدد في القوانين والأنظمة في الدولة والتي تضيق الخناق على مبادرات رجال الأعمال في أنشطتهم الاجتماعية، كيف يكون ذلك وفي حقيقة الأمر والواقع هناك تسهيلات وامتيازات مالية كبيرة تقدمها الدولة إليهم ولا تفرض عليهم نسباً من الأرباح، بل الأدهى والأمر بعد كل هذه الخيرات والثروات التي نبعت لرجال الأعمال من هذه الأرض نجد أن مليارات الريالات يصرفونها خارج الوطن في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة والمجتمع المحلي للوقوف معهم جنباً إلى جنب، ليكون السؤال الموجه إليهم: "البيزنس" أم الوطن يا جماعة؟

ما هذه المفارقة؟ رجال أعمال يؤسسون الشركات ذات الأسماء البراقة لكنها في الواقع ليست سوى أسماء! فتلك المؤسسة الضخمة ليست سوى مكتب أنيق وسكرتارية ودعاية مبهرجة وفي النهاية البنية التحتية لاقتصاد الوطن لم تستفد شيئاً، تاجر يفتتح مؤسسة لبيع أجهزة الجوال أو غيرها من الأجهزة والتقنيات التي يستوردها من الخارج وتجده يجعل لتلك الشركة الكثير من "الإتكيت" وهو في النهاية ليس سوى مستورد لأجهزة تصنعها دول أخرى، فأي شيء يخدم به الوطن مثل هذا الشخص "البريستيج"؟ لماذا الاستهانة بالإنتاج المحلي، والطاقات الوطنية، لصالح الاستيراد من الخارج هل هو إيمانهم بالمثل الدارج (حمامة الحي لا تطرب)، لماذا لا يوجد واحد من هؤلاء أصحاب المليارات يؤسس شركة صناعات إلكترونية متطورة؟ ترى لو فكر هؤلاء بهذه الطريقة كم يدا عاطلة سيشغلون، وكم لوطنهم سيفيدون، لكن كيف سيفكر هؤلاء بهذا ويغامرون بهذه المغامرة فهم لا يحبون أن يضعوا (القريشات) إلا في المضمون، المضمون الذي يملأ جيوبهم فحسب وليذهب الوطن وأبناؤه إلى الجحيم، سامحوني على الشدة بعض الشيء فلست في موقف المجاملة والمناورة والكياسة البلهاء فلا بد من استنهاض الهمم واستصراخ الضمائر للتحرك نحو فعل هادف ورسالي. ليكون السؤال الموجه إليهم مرة أخرى "البيزنس" أم الوطن؟

يبدو أن رجال الأعمال متفننون من الطراز الأول في ثقافة التبرير من قبيل مقولة ارتفاع الأسعار فعند الزيادة الأولى للرواتب 15% برروا ذلك الارتفاع بأنه ناتج من ارتفاع الأسعار العالمية وأمر خادم الحرمين الشريفين بدعم السلع الاستهلاكية للتجار والمرة الثانية مع رواتب الشهرين تزيد أسعار السلع 20% ليبرروا هذه المرة ارتفاع الأسعار بأنه ناتج عن أسعار البترول، ولعلهم يريدون من ذلك اختبار صبر وجلد المواطن، هذه المرة أنتم من تقرؤون هذا المقال ستجيبون: رجال الأعمال.. "البيزنس" أم الوطن؟

إن الذهنية العامة لرجال الأعمال السعوديين تحصر المسؤولية الاجتماعية فقط وفقط في المشاركة في الأعمال الخيرية والحملات التطوعية ولعل مصداق ذلك ما رأيناه من دعم ومساندة أصحاب الأموال للمتضررين من السيول في كارثة جدة الثانية، وهم مشكورون ومثابون من رب العالمين، لكن المسؤولية الاجتماعية هي العطاء من أجل التنمية لتكون جزءاً لا يتجزأ من مهامهم ولا يستقيم ذلك التأثير إلا بوجود أشكال تنظيمية ومؤسسية لها خطط وأهداف محددة بدلاً من أن تكون جهوداً عشوائية مبعثرة وخيرية قد تؤدي إلى الاتكالية، الأمر الذي يستوجب عليهم إعلان حالة استنفار لصنع حلول سريعة وجذرية، و إن كانت الدولة مسؤولة بالدرجة الأولى، لكن ذلك لن يعفي رجال الأعمال من تحمل المسؤولية والمشاركة إلى جانب الدولة على هذا الصعيد بدل الاكتفاء بإبداء التذمر والانزعاج وتبني مواقف التفرج وانتظار الحلول.

بالطبع، نحن لا نعمم فرجال الأعمال السعوديون الذين يسهمون في دور المسؤولية الاجتماعية هم أسماء متكررة لا تتغير ولا تتجاوز 10% من إجمالي عدد رجال الأعمال، هذه النسبة لا تتناسب أبداً مع خطورة التحديات التي نواجهها، ولا مع حجم الطاقات التي نمتلكها، والبقية مشغولون بهموهم الذاتية ومكاسبهم الخاصة، وإذا كان لديهم ثمة مسؤولية اجتماعية فهي لا تتجاوز الملتقيات وحضور المؤتمرات.

أقول أخيراً: إننا بحاجة إلى مجهودات كبيرة لنشر ثقافة المسؤولية الاجتماعية وثقافة العطاء التنموي بين رجال الأعمال والشركات الكبرى في المملكة وهذه الثقافة لا تنشر إلا من خلال فرض نظام من قبل الدولة على جميع الشركات والبنوك التجارية لتسخير جزء من أرباحها لخدمة المسؤولية الاجتماعية، شيئاً فشيئاً حتى يصبح الوطن مقدما على كل شيء بما فيه "البيزنس"!