يقول المثل: "من تكلم في الأفكار كان رائعاً وحلق مع الغمام نقياً، ومن تحدث في الأشخاص تورط وجلب لنفسه العداوة أو رفع البشر إلى مقام الألوهية كما فعلت الكنيسة مع (المعلم) يسوع عيسى بن مريم عليه السلام. ومن تكلم في الأشياء كان سخيفاً وتافهاً وانكمش دماغه في مربعات الأشياء".

ولكن ماذا نفعل حين نرى الأقنية الفضائية تنفخ في الفرد فيتحول إلى جبل نتروني؟ باعتباره (القائد الفذ) و(العبقري الملهم) و(عملاق التاريخ)!

كما وصف ستالين يوماً أنه "أهم فلولوجي، وأنجح اقتصادي، وأكبر مؤرخ، ورائد الإنسانية العبقري، وأعظم قائد عسكري في جميع الأزمنة والأمم، وزعيم الطبقة العمالية في كل مكان، وملهم الإنسانية التقدمي، والزعيم المعصوم، وأكبر عبقرية عرفتها الإنسانية"!.

إن قريبا من هذا الكلام تكرر في بعض المجالس الشعبية في جمهوريات عربية حين انبرى متحمس ليصف رئيسه بأنه يستحق أن يكون قائد البشرية، قالها وهو يكذب، ومن حوله يعلمون جميعا أنه يكذب، ومع ذلك فهناك نوع من التواطؤ على هذا الكذب المكشوف، وهو أمر يدخل في مجال علم النفس الاجتماعي حين يعبد البشر بعضهم بعضا من دون الله.

ولكن ماذا نفعل إذا كان الأفراد هم الذين يصنعون التاريخ مثل هتلر وستالين وروزفلت وترومان ولورنس البريطاني وتيمورلنك، إلى درجة أن وضع الفلكي الأمريكي (مايكل هاردت) كتابا بعنوان (الخالدون المئة) قال فيه إنه وضع الجيدين مقابل شرار خلق الله، باعتبار أثرهم العالمي.

وجنكيزخان مثلا ترك بصمته على الحضارة أكثر من قورش، وعبدالناصر قاد العرب إلى كارثة حزيران في الوقت الذي خرجت الجماهير تبكي وتطالب بأن يبقى على ظهرها إلى يوم القيامة مثل الفرعون سيتي وبيبي الرابع! بل وتتشكل أحزاب تحمل اسمه عبودية له وتيمنا بهزيمته.

وحسب تقسيم المفكر الجزائري (مالك بن نبي) في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) فإنه يرى أن هناك تطورا طبيعيا في رقي الإنسان بين (ثلاثة) عوالم؛ فينمو طبقا عن طبق من عالم (الأشياء) إلى عالم (الأشخاص) إلى (عالم الأفكار)؛ فالطفل لا يفرق في مطلع حياته بين زجاجة الحليب وثدي أمه، بل لا يعرف يده من العصا، ويقبض على الجمرة مثل الجوهرة، ثم يدخل عالم (الأشخاص) فيفرق بين أمه وأبيه وصاحبته وأخيه. ثم يدخل عالم الأفكار ويصبح تجريديا فيتعلم آدم الأسماء كلها.

وقد انتبه لهذا عالم النفس السويسري الارتقائي (جان بياجييه) كما جاء في كتاب (الشيفرة الكونية The Cosmic Code) لمؤلفه (هاينتس بيجلز Heinz.R.Pagels) أن الطفل لا يفرق في عمر السابعة بين المستوى والحجم؛ فكميات الماء في دورق أو أنبوب أو برميل عنده سواء طالما كانوا في مستوى واحد.

ويشابه في هذا المجتمع في الانتقال من دور (الوثنية) إلى دور (الأبطال) لينتهي بدور (الفكرة). وحيث تشع الفكرة تذوب أصنام الشمع. وحين تغيب شمس الفكرة يبزغ الصنم. سنة الله في خلقه.

في رمضان من عام 1425 مات الشيخ (زايد بن سلطان) حاكم الإمارات. مات بدون ضجة كبيرة كما ترسو السفينة على الشاطئ بعد رحلة طويلة، بدون عداوات شخصية. مات وودع في جنازة رسمية بسيطة بدون تماثيل شاهقة ونصب مرفوعة، أو زحف مليوني كما حدث في جنازة عبدالناصر ووداع الفرعون بيبي الثاني.

وحينما تعبد الأمة الأشخاص إلى هذه الدرجة فقد تودع منها. والفرق بين الوثنية والتوحيد هو في استبدال الذات الإلهية بالذات البشرية الفانية. وفي القرآن جاء ذكر (ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر) إنهم بشر حوّلهم البشر إلى ما فوق البشر فعبدوهم فضلوا وأضلوا كثيرا.