طبقت فرنسا القرار الذي اتخذته مؤخراً بمنع النقاب، وعارضه بعض الراديكاليين لأنه مصادم للحرية التي يدعيها الغرب وأنه محاربة للمسلمة في دينها، وهذا ـ كما أزعم ـ وهم فهو محاربة لعادة وليس لدين؛ لأن الحكم ـ بحسب معرفتي ـ ضعيف من الناحية الفقهية، فهو قول مرجوح ولم يأت مناصروه بما يشفي الغليل في هذا النقاب؛ رغم استماتتهم في ذلك، وهم كل من جعله من الشريعة وأخرجه من دائرة العادات سواء من أوجبه أو من قال إنه سنة، ولا يوجد دليل واحد إلا أفهامهم لبعض النصوص ويمكن الرد عليها، ولا يتسع المقام لبسط المسألة فقهياً، لكن يتشبث به البعض للدلالة على وجوده ووجود مذهبه في مكان ما حتى ولو كان في الغرب، فالقرار في حقيقته لا غبار عليه فهو لا يتصادم مع الحرية ولا يتصادم أيضاً مع الإسلام، ولا يتصادم مع تمكين الأقليات الإسلامية من ممارسة شعائرها.
أما كونه لا يتصادم مع الحرية فيجب أن نعلم ما هي الحرية وما هي فلسفة الحرية، فالحرية لا تعني في المقام الأول حرية التصرف وإنما حرية الاختيار بعيداً عن أي ضغوط أيديولوجية دينية أو اجتماعية، أي اختيار المعتقد والمبدأ والفكرة والأخلاق واختيار تطبيقاتها وتمثلاتها وممارساتها، وعدم وجود وصاية دينية أو مذهبية أو اجتماعية على الشخص في هذا الاختيار فهذه هي الحرية، وأما التضييق والحد من نطاق التصرف حتى ولو كان في الملبس من منطلق نظامي أو قانوني فلا يعد مصادماً للحرية؛ إلا إذا كان هذا النظام وجهاً آخر للأيديولوجيا لا غير؛ وهذا غير موجود في دولة علمانية كفرنسا، ولو كان الحد من التصرف حبساً للحريات لأصبحت كل الأنظمة والقوانين في العالم حابسة للحرية وهذا غير صحيح، ومنع النقاب في فرنسا هو نظام لمصلحة رأوها لأسباب قد تكون أمنية وقد تكون سياسية على المدى البعيد، ولم يخرج من منطلق أيديولوجي؛ فهم يرونه نوعاً من التخفي كتغطية الرجل وجهه، فهم لن يقرونه بحال، فالتبرير المنطقي واضح والبعد النظامي ظاهر، بل حتى لو صح ما يقال إن غرضه التضييق على المسلمين فالتضييق نفسه مصلحي وليس ديني؛ لأن بعضاً من الجاليات الإسلامية يخالفون الأنظمة هناك ويريدون التخلص منهم وليس لأن الكنيسة تأمرهم بذلك، وعلى المسلمين أن يتنبهوا لذلك وينظروا لمستقبل الإسلام في أوروبا ولا يتمحوروا حول جزئيات صغيرة، وحتى لا تتكرر هذه المشادات في كل مرة حول قرار يخرج هنا أو هناك يمنع من ممارسة شعيرة إسلامية؛ فإنه يتعين على المراكز الإسلامية هناك وضع منهج محدد وآلية فقهية لمعرفة ما يعد منعه محاربة للإسلام ويصعب التنازل عنه، وما لا يعد كذلك ليسيروا بناء عليها، وأن يطوروا من مفهوم تمكين الأقليات الإسلامية من ممارسة شعائرها، فالشعائر حينما تطلق فإنه يراد بها الشعائر الظاهرة الرئيسة أما ما دونها فلا يقال إن السماح بها تمكين لهم أو منعها منع لهم، فلو منعوا من ذبح الأضاحي لا يقال إنهم لا يمكنون من دينهم حتى ولو قلنا بوجوب الأضحية، أو منعوا من الذهاب للعمرة أو منعوا من التراويح أو منعوا من الصوم التطوعي طالما أنه يسمح لهم بالصلاة والزكاة والصيام والخروج للحج ولا يجبرون على شرب الخمر أو الربا، لأن المندوبات بل بعض الواجبات أيضاً للحاكم المسلم أن يمنعها للمصلحة من باب درء أعلى المفسدتين فكيف بالعادات، ومع ذلك لا يقال إن هذا الحاكم تخلى عن دينه لأنها ليست معلماً يدل على وجود الدين، ومثله الدول غير المسلمة لو منعتها للمصلحة أيضاً فلا يقال إنهم يحاربون المسلمين في دينهم، فطالما أن المصلحة هي الباعث على هذه القرارات فهي صحيحة سواء أتت من حكومة إسلامية أو غير إسلامية.
إن التداخل الحاصل بفعل الانفتاح الثقافي والاقتصادي والتجاري والنظامي، وأية محاولة لتقريب الأنظمة في دول العالم من بعضها وما يتبع ذلك من سهولة الانتقال والحركة والإقامة بين الشعوب؛ ليتيح الفرصة للمطالبة بحقوق الأقليات من كل الأطراف بنفس القدر، فإذا كان المسلمون يمانعون ويتذمرون من تطبيق الأنظمة في الغرب على الجاليات الإسلامية مع أنها للمصلحة؛ فعليهم في المقابل ألا يفرضوا أنظمة ضد الجاليات في بلدانهم لمجرد الخصوصية والشعارات؛ حتى لا يكيلون بمكيالين. فإذا كان الغرب يمنع المرأة من لبس معين فبعض الدول تجبرها هي أيضاً على لبس معين، وهذه المقارنات ستكون حاضرة دائماً بفعل الانفتاح ولن تكون المطالبة من جهة واحدة وهذا ما يتوجب عليهم أن يدركوه.