ظلت العلاقات العربية الإيرانية، منذ قيام الثورة 1979، في حال من التوتر والتجاذب والشكوك والحذر رغم محاولات التقارب التي بدت ممكنة في فترات قصيرة. ولم تفلح مظاهر الدبلوماسية وخطابات "حسن النوايا" من الطرفين في أن تخمد جمر التوجس والترقب تحت رماد الرغبة في إبعاد المنطقة عن نتائج النزاع.

وقد استطاعت إيران خلال تلك الفترة – مهما اختلفنا مع نظامها وأهدافه – أن تؤسس استراتيجية في تعاملها مع المنطقة مستفيدة من تبدلات وصراعات وأحداث وحروب عسكرية وسياسية.. فقد تمكنت من توظيف واستثمار تخلص الولايات المتحدة الأمريكية من نظامي طالبان وصدام.. وهما النظامان (العدوان) المتناقضان مع المبادئ التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكانا يشكلان تحديا (جغرافيا وتاريخيا) حقيقيا لمشروع "التمدد" على الساحة الأفغانية وربط "جزر" الحلفاء في المنطقة العربية، فالتناقض المذهبي مع طالبان - بغض النظر عن صواب وجوده - كان يشكل عقبة تعرقل التأثير في بلد متقلب الأحوال كأفغانستان.. وكان نظام البعث العراقي – بطموحاته وجنون سطوته، يشكل عائقاً أمام التمدد الإيراني في الساحة العربية.. وعندما استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية القضاء على هذين النظامين – لأسباب مختلفة – وجدت إيران نفسها وقد تخلصت من عائقين معطلين كانا يحاصرانها من الشرق والغرب.. وقد اتجهت – دون أن تضيع الوقت – للعمل على قيام أنظمة موالية في العراق و"محايدة" في أفغانستان وبالتالي استطاعت بناء تحالفات قوية في هذين البلدين للحيلولة دون قيام أنظمة وطنية يمكنها أن تشكل خطراً على استراتيجيتها. ويضاف إلى هذين العاملين عناصر أخرى لا تقل أهمية لعل من أوضحها: غياب القوى الإقليمية المقاومة، فالمنطقة العربية – في غالب دولها – عاشت "حالة انكماش" منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 صاحبها ضعف الحضور وتراجع الفاعلية وانعدام موقف سياسي موحد يمكنه بلورة رؤية استراتيجية تتعامل مع "النشاط" الإيراني المتنامي.. وقد رصدت السياسة الإيرانية هذا "الخلل" في جسم المجموعة العربية فنشطت من خلال حلفائها وأذرعها من الدول والأحزاب والمجموعات مستغلة حاجة تلك "الأذرع" إلى الدعم المادي والمساندة السياسية خاصة بعد فشل الأنظمة العربية في قراءة الواقع وآثاره السلبية على وجوده. وكان من "ثمرة" ذلك أن تبنت إيران سياسة "تحريك الحلفاء والوكلاء" في بعض الأقطار العربية تحت لافتة دعم روح المقاومة ومواجهة مصالح الدول الكبرى التي تستغل ثروات المنطقة لغير أهلها ولضمان "جمع" المزيد من الأوراق في "لعبة" المصالح على مسرح الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استثمر الخطاب الإيراني الموجه إلى الساحة العربية "حالة الجمود" وتعطل الابتكار والحيوية في النظام السياسي العربي واتساع المسافة بين الأنظمة والقواعد الشعبية لتحقيق روح التوجس من المشروع الإيراني. وظهرت في الدوائر الإعلامية والثقافية أصوات تطالب بإعادة النظر إلى إيران وأن الحديث عن سياستها التوسعية ما هي إلا "دعاية" رسمية تتبناها الأنظمة.. وهذه الرؤية "المنحازة" في أطروحاتها إلى "الروح" الإيرانية استغلها "الوكلاء" المحليون ليلبسوها ثوباً وطنياً ويخلطوها بأوراق الإصلاح التي ينادي بها البعض انطلاقاً من مصلحة وطنية لا علاقة لها بإيران بل هي رؤى مستقلة منطلقة من "استحقاقات" وطنية هدفها دفع عملية التحديث والتنمية. وسيكون من الخطأ الفادح أن يسمح لهؤلاء "الوكلاء" أن يربطوا شعار التحديث ورفض الجمود ومطالب محاربة الفساد والرغبة في تجديد الدماء، التي تجتاح المنطقة العربية برغبات "كامنة" تحركها نزعات "طائفية" فهذا ظلم للحس الوطني وغفلة تعطي "الطائفيين" مركبا لأغراضهم لا يستحقونه.

وإذا تجاوزنا الماضي – المؤثر ولا شك في الحاضر والمستقبل - ونظرنا إلى الحاضر سنجد أن إيران أصبحت – بحكم الواقع – طرفا أساسياً في أي تسويات أو "مساومات" في السياسة الإقليمية. وزاد من حظوظها وفاعليتها – رغم ما يبدو على السطح من تنازع - مجيء إدارة الرئيس أوباما الذي رفع "لافتة" إعادة فلسفة العلاقة مع العالم الإسلامي من خلال "دبلوماسية الكلمات المفخمة" فنشطت الدبلوماسية الإيرانية لاستثمار لعبة المصالح مع الغرب والشرق وإطالة زمن المباحثات اللولبية التي تدفع بالأحداث إلى حافة الهاوية ثم تنتشلها في اللحظة الأخيرة قبل السقوط. ونجحت في أن ترتبط بعلاقة تصالح مع دولة كبرى مؤثرة في المنطقة مثل تركيا أو - على الأقل - النجاح في الخروج معها من "نفق" المواجهة إلى "طريق المصالح" المشتركة..

هذه "الصورة" إذا كان لها نصيب من صحة وحجة من منطق فإنها تطرح حزمة من الاسئلة على الساحة العربية مقتضاها: ماذا ستفعل الدول العربية؟ وكيف تستطيع أن "تفرز" الأصوات الوطنية الداعية إلى رفعة الوطن والمساهمة في تنميته عن عناصر "الشغب" التي تستغل شعارات الإصلاح من أجل ربط أسبابها بالأهداف الإيرانية؟.

سيكون من المفيد، في طريق البحث عن إجابة الأسئلة، النظرة إلى "الذات" والتعرف على أسباب ضعفها وكيف يمكن استعادة الأوراق التي كادت تضيع من الأيدي بسبب حالة الجمود الماضية.. وأعني بالأوراق حيوية الدول العربية المؤثرة والتقدم نحو لعب الأدوار المهمة. ويدخل في ذلك بشكل أساسي: استعادة ثقة الأصوات الوطنية التي كادت تنحاز إلى الموقف الإيراني تحت لافتات لم تفحص بشكل جيد بسبب "الملل" من الأخطاء الداخلية في الكثير من الساحات العربية. وهذه خطوة بالغة الأهمية لأنها ستحرم الخطاب الإيراني من استثمار بعض المشاعر الطائفية التي تنمو في مناخ الأخطاء التنموية. وسيكون من القراءة الخاطئة أن يظن بعض المواطنين أن التطلع إلى "الخارج" يسهم في معالجة مشاكلهم الداخلية فهذه القراءة والسير في اتجاهها يفقدهم مصداقيتهم ويسلبهم تعاطف المنصفين من أهلهم المؤيدين لحقوقهم.