يقول أحد الفلاسفة بأن "الظلم لا يولد الثورات، إنما يولد الثورات الإحساسُ بالظلم".الحقيقة أن وجود مظلوم يعني بالضرورة وجود ظالم، لكن الحقيقة أيضا، أنه ليست هناك ساعة تضبط تحملَ المظلوم لما يقع عليه من ظلم، وليس هناك في المقابل ميزان يَزِنُ حجم الظلم الذي عنده يتوقف الظالم عن ممارسة ظلمه وبطشه وقمعه واستبداده بحق من ظلمهم. بل إن شاعرنا المتنبي، له نظرة متطرفة في فلسفة الظلم. فهو يقول حتى المظلوم لديه استعداد فطري لممارسة الظلم ولديه القابلية لإيقاع الظلم بغيره، حين تتاح له الفرصة وتتهيأ له الظروف، "والظلم من شيم النفوس.. فإنْ تجدْ ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ". ويؤيد فلسفة المتنبي، النظريات النفسية التي ترى أن المدير المستبد بموظفيه، هو في الحقيقة ضحية للاستبداد في بيته، مثلما أن المرأة التي تعاني من ظلم الرجل واستبداده في البيت، تكون هذه المرأة أكثر ظلما واستبدادا بحق النساء اللاتي يقعن تحت إدارتها وإشرافها الإداري في العمل.

لا أحد يعرف اللحظة التي ينفجر بها المظلوم والشرارة التي تشعل الحريق، ولا أحد يعرف ما إذا كان الأمر يتعلق بالمظلوم فقط أم أن المسألة تتعلق بالظالم أم أن الموضوع يتعلق بحجم الظلم ومدته وبعدد ضحاياه، لكن الأكيد أن الإنسان حين ينشأ بنمط من أنماط الظلم، يألفه ويبقى أسيرا له بإرادته، لا يستطيع الفكاك منه، بل لا يريد أحيانا أن يعرف نمطاً غيره بمحض إرادته لفرط العبودية المتراكمة والمتكلسة في اللاوعي الفردي ومفاصل ثقافته الاجتماعية. ولذلك قال ابن خلدون، الاستعمار ليس صنيعة المستعمِرين، بقدر ما هو تقبُل المستعمَرين واستعدادُهم للاستعمار. ولذلك لم يستجب الكثير من الأمريكيين السود لثورة الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية حتى بعد أن نجحت، رغم ما أحدثته من تغيير وما حققته من حقوق ومكاسب مدنية ومساواة مع مواطنيهم البيض، والسبب هو أن ذلك الإنسان تشبع بنشأته وانصهاره بثقافةٍ تمكنت العبودية فيها من مفاصل اللاوعي، وهيهات هيهات بعدها أن يخترق الوعي اللاوعي ويحدث تغييرا، بعيدا عن كنف السيد الأبيض في مزرعته ومصنعه ومنزله.

وصول وانتشار موجة حقوق الإنسان إلى الثقافة والمنطقة العربية متأخرا، ليس لأنها اختراع غربي، فهذه الحقوق احتياج طبيعي لكل إنسان لتكفل كرامته وتصون سبل عيشه الكريم، لكن الإنسان في حالات كثيرة لا يشعر بقيمة وأهمية حقوقه قبل أن تلامس وعيه المعرفي.

فهل كان الظلم جديدا في الثقافة العربية والمجتمع العربي مما تسبب بتلك العواصف والاحتجاجات التي اجتاحت أكثر من بلد عربي؟ أم أن الظلم ضارب في قدم تاريخ الثقافة والمجتمع العربي، وإنما إحساس هذا العربي بحقوقه جاء متأخراً؟

من المعروف ومن الطبيعي أن الإنسان يرسم سقف طموحاته ثم يبدأ يرفع ذلك السقف بقدر ما يحتك ويتفاعل مع غيره. وبقدر ما لدى من يحتك بهم من سقوف مرتفعة من طموحات، يرفع الإنسان سقف طموحاته المادية والمعنوية. ولأن حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الثقافة العربية ظلت أقل بكثير من المستوى الطبيعي عبر تاريخ طويل ومرير، لم يشعر الفرد والمجتمع العربي بحقوقه وحاجته لها إلا متأخرا حين فتح له الإعلام والإنترنت نوافذ وأبوابا مشرعة على قيم وثقافات خارج نطاقه الثقافي.

بسبب المقاربة والمقارنة، اكتشف الفقير والعاطل والمصادرة حريته، والمهدرة كرامته والمنتهكة حقوقه والمظلوم والمسلوب؛ اكتشف كل هؤلاء بأنهم كذلك وبأن هناك فجوة كبيرة وهوة سحيقة في الحقوق تفصلهم عن غيرهم من شعوب وأمم أخرى، عندها هبت العاصفة، فاقتلعت تارة أشجارا معمرة، وتساقط طلع بعضها تارة وجاءت تارة بردا وسلاما.

الثورات العربية جاءت من أسرع الثـورات في التاريخ وأقصرهـا مدة، بل ومـن أكثرهـا كثافة وتلاحقـا بسبب المقاربة والمقارنة. والمقاربة والمقارنـة أبـرز سمتين أفرزهما وتسبب بهما الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، وأصبحتا من أبرز سلوكيات الإنسان المعاصـر. فقد ظل الإنسان لفترة طويلة يعتمد فقط على حواسه المباشرة لمعرفة ما حوله. فلا يرى إلا ما يقع تحـت عينيه مباشرة ولا يسمع سوى ما يقع مباشرة تحت سمعه، قبل أن يتمدد بصره وسمعه ويصبح الإعلام المرئي امتدادا لبصره ويصبح الإعلام المسموع امتدادا لسمعه ليرَى ويسمعَ أبعد من جغرافيته وزمنه فتخطي مكانه وتجاوز زمانه، بالتلازم مع مراجعة كل قيمه ونماذجه وتغيير كل ما يتعارض منها مع وعيه الجديد بحقوقه ومعرفته الجديدة وحقوقه الجديدة وثقافته الجديدة بالمقارنة والمقاربة.