على طريق الأمير سلطان وعند تقاطعه مع شارع صاري قد تنتظر دقائق طويلة كي تعبر التقاطع من الجنوب إلى الشمال. كنت هناك في ليلة من ليالي الإجازة، أرقب إشارة المرور وهي تضيء باللون الأخضر والأصفر والأحمر وأنا في مكاني لا حراك. يصيبك الملل... ثم تبدأ بعد الأشياء التي حولك، أعمدة الإنارة والمحلات التجارية، أو قراءة لوحات السيارات التي تقف أمامك ولا تتحرك. أما أنا فبدأت في عد السيارات التي تجتاز التقاطع فوق الجسر الممتد على شارع صاري، وكانت سبع عشرة سيارة فقط في أكثر من دقيقتين. ونحن على الأرض كنا بالمئات ننتظر العبور. لو كان بمقدوري كما هو الحال مع جهاز الكمبيوتر لضغطت على مفتاح الاستدارة 90 درجة وتخلصت من الاختناق المروري الذي يعاني منه التقاطع.

من ينظر إلى الجسر وما تحته وفوقه يدرك أن الذي صممه وبناه بهذا الشكل لا يمتلك الحد الأدنى من الحس الهندسي، أو لا يعنيه البعد العملي. ملايين بل عشرات الملايين من الريالات لخدمة 17 سيارة في أوقات الذروة، ولا أدري إن كان يعتلي الجسر أحد في غيرها! أضف إلى ذلك بشاعة المنظر، والتكلفة البيئية لهذا المشروع.

وفي طريق العودة، اخترت الطريق الموازي لمجرى السيل شمال شارع التحلية خوفا وهربا من الازدحام والاختناقات المرورية، التي لا يخلو منها طريق أو شارع رئيس. وكانت في انتظاري عليه أنابيب وكومات الأتربة وحفر منتشرة على طوله وعرضه، وتحويلات عشوائية تخدش المنظر العام وتخل بسلامة المرور.

مجرى السيل هذا الذي لم يكن ليبتل مع سقوط الأمطار الغزيرة بينما يغرق كل ما حوله، قررت الأمانة أن تضع حدا له، ويختفي من الذاكرة. وعدتنا قبل سنين بتحويله إلى مشروع ترفيهي ومسارات للمشاة، ومسطحات خضراء وألعاب الأطفال. تمت تغطية المجرى بميزانية فلكية، ونحن بعد خمس سنوات ننتظر جنة عدن على سطح مجرى السيل القديم.

كانت على مجرى السيل الذي لم يكتمل غطاؤه، آليات من الوزن الثقيل، وأنابيب كبيرة وخنادق حفرت في الغطاء الذي لم تمض على وضعه أسابيع، بل لم تكتمل أجزاؤه. كم من الملايين كانت ستوفر أمانة محافظة جدة لو تزامن تنفيذ المشروعين.

الأمثلة كثيرة على المشاريع التي نفذت ثم تم تعديلها أو التخلي عنها أو إزالتها. كل مدن العالم تمتلك مخططات لما ستكون عليه المدينة والخدمات في المستقبل، وفيها تعريف بالمشاريع المقرر تنفيذها خلال فترة الخطة الاستراتيجية، التي تمتد لخمسين عاما أو أكثر، وتنفذ في خطط مفصلة كل خمس أو عشر سنوات. فهل تمتلك أمانة محافظة جدة استراتيجية للمدينة، أم أنها تخلت عنها، ولجأت للعشوائية التي تحتمها الظروف دون سابق إنذار؟ هل أهملت تطوير الخطة بما يتماشى مع الطوارئ التي أصبحت من الروتين؟ في كل الأحوال ستكون المحصلة هدرا للمال العام، وتشويها لمنظر المدينة الذي منحها لقب العروس.

أين التنسيق؟ ونحن نتحدث عن مشاريع في مؤسسة واحدة لا يفصل بين المسؤولين فيها إلا جدار في مبنى الأمانة. نحن لم نتحدث عن مشروع قطار الحرمين الذي تفاجأ العاملون عليه بخطوط شبكة مياه الصرف تعترض طريقهم... الشبكة التي لم يمض على بنائها بضعة أشهر، ولم تكتمل بعد. ولم نتحدث عن محطة معالجة الصرف الصحي بالمطار، والتي تم نقل موقعها أميالا في اتجاه الشرق، فتغيرت المناسيب، وصار حتما بناء محطات الرفع، وزيادة تكاليف الإنشاء والتشغيل والصيانة. تكاليف ما كانت لتبرر لو تم اعتبار الأسباب قبل وضع التصاميم النهائية لمشروع الشبكة، أو قبل الشروع في التنفيذ.

كنت أظن أنه يتندر، عندما قص لي أحد الأصدقاء كيف مددت شركة المياه الوطنية أنابيب الصرف الصحي في أراض خاصة. هل تصدق؟! وتوجب بعد ذلك خلعها وإعادة التصميم والتنفيذ.. وذهبت الأموال العامة هدرا. من منا لم يسمع بمشروع قطار الحرمين ومشروع الصرف الصحي في جدة؟!

لا بد من معرفة مديرية المياه والصرف الصحي بمشروع قطار الحرمين قبل تنفيذ المشروع الخاص بتمديد شبكة الصرف، ولا بد من دراية المسؤولين والشركات التي تنفذ مشروع القطار بوجود الأنابيب على مساره أو متقاطعة معه. ولا بد أن وزارة المواصلات لديها مخططات للمدن والقرى التي يمر بها القطار وخرائط البنية التحتية والخدمات في هذه المدن. من المفترض والطبيعي وجود هذه الوثائق في الأمانات والبلديات، فلمَ لم يكلف أحد نفسه معاناة النظر فيها قبل أن تهدر الأموال العامة بالملايين ومئات الملايين؟

لا عذر للأمانة فيما نشهده من فوضى على مجرى السيل وفي كل مكان، ولا عذر للشركة الوطنية للمياه التي تنفذ مشاريعها دون تنسيق مع الجهات الأخرى، ولا عذر لوزارة المواصلات في إغفال مخططات المدينة قبل تحديد مسار القطار، أو اتخاذ اللازم قبل تصدير المخطط النهائي. هل ما ذكرناه طلاسم يصعب فك معانيها. أم أنها اللامبالاة وهدر المال العام؟.