عندما بدأت الثورة في تونس لم يكن يُلقى إليها الكثير من الاهتمام والمتابعة، إلا أنه بعد إعلان خروج الرئيس المخلوع فوجئ الجميع بذلك، وكانت المفاجأة أن حصل ذلك قبل أن تُكمل الثورة شهرها الأول! وهكذا تلتها الثورات الأخرى بشكل متسارع، شابهت في ذلك ثورات أوروبا الشرقية، حيث بدأت الثورات في تلك المنطقة بنجاح ثورة بولندا في بدايات 1989م ثم تلتها الثورات إلى أن أدت إلى سقوط جدار برلين في عام 1990م، ثم سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991م، الذي بسقوطه اكتملت الثورات في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفيتي تقريبا، ويُعتبر ذلك العام رمزا لانتهاء الحرب الباردة. هذا السقوط المتسارع لم يكن ليحدث لولا أن النظام الشيوعي متعارض مع الكثير من طبائع البشر وشرائع السماء.
كان يفشو في تلك الأنظمة القمع والظلم والاستبداد، وكانت الشعوب تعاني من الفقر والفساد، كما كانت الأجهزة الأمنية هناك معروفة بالسلطة اللا محدودة مما جعل الناس يضيقون ذرعا من سلب إرادتهم وحرياتهم الخاصة والعامة.
المشهد نفسه يتكرر في بعض البلدان العربية، وكأن التاريخ يعيد نفسه!
لا أريد الحديث بهذه الطريقة التي ربما سَئِم القرّاء من كثرة ما سمعوا وقرؤوا من وصف وتحليل يماثلها، إلا أن محاولة قراءة المستقبل السياسي للبلدان العربية مهمة للغاية، وللأسف أكثر من كتب في هذا الموضوع هم الغربيون الذين يتابعون المشهد بكل حذر.
الحقيقة أن تلك الأنظمة لم تترك مجالا للأحزاب والحركات السياسية كي تكون قوية، مما أدى إلى قلة الكوادر ذات الكفاءة وجمود تراكم الخبرات لديها. فهذه الأحزاب لم تكن تمارس إلا المعارضة الخجولة أحيانا، وفي أوقات أخرى لم تمتلك إلا التصفيق للنظام أو الخروج من البلد خوفا من السجن والملاحقة! وفي لحظة مفاجئة ثار الشباب وحصل ما لم يتوقعه المعارضون قبل الأنظمة.
المهم في الأمر؛ هو أنه في حال نجاح تلك الثورات في تحقيق تعدديةٍ سياسيةٍ وتداولٍ للسلطة لا ندري عن كيفية إدارة البلد، خاصة مع ضعف الخبرة في الممارسة السياسية وضعف البنى الثقافية والحركية لتلك الأحزاب، فضلا عن الشعوب التي تحتل المراتب العليا في الأمية في العالم! بالإضافة إلى أن كثيرا من المتعلمين هناك لم يحصلوا إلا على تعليم مشوَّه وضعيف.
إن الكثير من المتابعين يخشون من المستقبل، هل سيكون بداية لعصر الازدهار العربي والإسلامي أم إنه سيكون بداية للحروب والمغامرات ومن ثمَّ العودة للفقر والجهل وانعدام الأمن والاستقرار؟
في بداية الثورات القومية العربية، استطاع القوميون أن يجيشوا الشعوب وينشروا الفكرة القومية بشكل متسارع، ولكن تبددت تلك الأحلام بعد الزج بالبلدان في حروب لم تكن مبنية على قرارات مدروسة بقدر ما كانت أسلوبا لتجييش الشعوب وتعزيز الأنظمة لسيطرتها فقط.
لا شك لدى المتابعين أن من يسيطر على المشهد في تلك الدول الآن هم المتظاهرون من الشباب في الشارع، الأمر الذي يعزز الخوف من تحوّل تلك البلدان إلى الفوضى واتساع الاضطرابات داخلها.
ما يخشاه المراقبون الآن هو أن تكون النتيجة خوضاً لتجارب قد تكون مهلكة، كما حصل بعد الثورات القومية في الدول العربية أو ما حصل أثناء الحروب الدموية في بدايات القرن العشرين بين الدول الأوروبية، في ظل هذا الضعف البيّن في البنى السياسية لدى الأحزاب التي قد تتولى الحكم في المستقبل.
إن من أهم القواعد التي يجب أن يعيها هؤلاء الثوار هي أنه ليس كل مأمول ومرغوب يجب أن يطبَّق فورا، وأنه ليس كل ما يُطمح إليه يُمكن الوصول إليه بين يوم وليلة! حيث إن اللعبة السياسية تبنى على لزوم قبول العمل بشيء غير مرغوب أحيانا خوفا من الوقوع في الأسوأ ودفعا لمكروه أعظم.
كما أن مسيرة التنمية والبناء للدول تستغرق سنوات طويلة وتحتاج إلى جهود وتركيز كبيرين. ولا يمكن أن تنجح الممارسة إلا بإدراك تامّ للأبعاد الدولية والإقليمية وجميع الظروف الداخلية والخارجية المحيطة في كل قرار ذي صلة.
باعتقادي؛ أن ترشيد وتوعية تلك الشعوب في هذا الخصوص من أهم الأولويات، خاصة مع تواجد العديد من التيارات الثورية الإسلامية وغيرها التي قد يكون لها حضور قوي من خلال التصويت.
ومن المهم أن تُركز تلك البلدان على البناء الثقافي والعلمي للبلد، وترسيخ مبادئ التعددية والحوار، ونشر العدالة والحفاظ على حقوق الإنسان، بالإضافة إلى تعزيز الاستثمار والاقتصاد، والسعي نحو توطين التقنية والصناعة في البلد.
من المؤكّد لدي وجودُ الكثير من الخبرات والكفاءات التي يُفتخر بها في تلك البلدان وأن لها دورا رائدا في مجال توعية الشعب والمبادرة في الإصلاح، إلا أن الأمر يدعو للقلق خـاصة مع استمرار حالة الإضرابات والاعتصامات بسبب وغير سبب.
وليست هذه دعوة إلى التخويف من المستقبل ولكن الحذر واجب في مثل هذه الأمور، خاصة أنه يتعلق بمستقبل الأجيال القادمة وسيكون تأثير عواقب تلك الأمور على جميع المنطقة العربية وليس على قُطْر معين فحسب.