على مسافة ليست بالقريبة يجلس العم عبدالرحمن الربيع، والخالتان أم أحمد وأم هاشم في القرية التراثية بمهرجان "حسانا فله"، الأول تفنن في صناعة الخبز العربي من البر والطحين، على الطريقة الأحسائية في داخل التنور الخزفي، الذي أوقدت فيه نار بواسطة جذوع النخيل، ويلتف حوله العشرات من زائري المهرجان لتذوق ما يصنعه من خبز أو للشراء منه، أما الخالتان فقد استطاعتا استقطاب شهية الصغار والكبار من خلال إتقانهما "لف خبز المسح الرقيق" بطريقة جميلة وأشكال متعددة.
طرق تحضير "الخبز" تتشابه إلى حد ما، إلا أنها تختلف في الطعم؛ لكن اتفق الحضور على أن كل واحد من الخبازين، استطاع أن يحجز له مكانة تراثية تفيض بعبق وبرائحة الماضي، فيضطر الجميع للتوقف عندهم ليشاهد تلك الأيادي الأصيلة وهي تنتج شيئًا يذكرهم بسنواتٍ خلت يوم كان الأجداد والجدات يصنعونه ليطعموا صغارهم وسط ضنك من العيش وشيء من الحلاوة، إضافة إلى الرائحة الزكية التي تنتشر في المكان محدثة اهتزازًا في النفس لا يمكن تفسيره بشيء سوى الحنين للماضي.
العم عبدالرحمن قضى أكثر من 50عامًا وهو يعمل خبازًا، لم تثنهِ أتعاب السنين التي تحيطه من كل حدب وصوب، أو تفل من عزيمته وتساعده على ترك هذه المهنة. عندما تتحدث معه يشعرك بما يحمل في قلبه من إيمان صادق والاتكال على الله تعالى. تحدث معنا كثيرًا عن تجربته مع الخبز، فلم يشعر يومًا من الأيام أن نار التنانير التي ألهبت يديه هي عدو له، بل صديقة ساعدته في تلقي لقمة عيشه طوال هذه السنين. وعندما تقدم به العمر رسم لمشاركاته في المهرجانات التراثية هدفًا واحدًا وهو إطعام زواره بيده الطيبة، ونقل هذه المهنة للأجيال القادمة خشية الاندثار، فهو يُعتبر آخر حلقة في سلسلة الخبازين الذين يُجيدون هذه المهنة ببراعة تامة.
أما الأيادي النسائية فهي أيضاً تلاعب النار من خلال مسح "التاوا" بعجينة الخبز الرقيق، ولكنها تواجه مهنتها بقدر أقل من التعرض للحرارة، فيكفي أن تمرر الأنامل بسرعة متوسطة على"التاوا" الذي تضع عليه الخبز، وما هي إلا ثوانٍ وينضج ويلف ويصبح جاهزًا للأكل وبأنواع متعددة.
الشيء اللافت للنظر أن الزبائن – وأغلبهم من العائلات - يقفون معجبين بطريقة صنع الخبز، حتى بعد شرائهم يستمتعون بسحر هذه المهنة وكأنهم أمام طبيعة ساحرة ونفسٍ جميلٍ تعودوا أن يروه في الجدات القدامى، وفقدوه في متاهة المدنية الحديثة.