لقد "خدعنا"، أولئك الشباب... ووجدناهم حيث لم نكن ننتظر أن نجدهم... بل حيث لم يكن يخطر ببالنا أن نجدهم.
حسبناهم لا يسمعون ولا يرون ولا "يقشعون" سوى همومهم "الصغيرة" و "العابرة"... بعيدا عن الجدّ والجدّية والمسؤولية حيال كل ما هو عام. وحسبناهم يتحرّكون ويتنفسون ويعيشون في "عالم افتراضي"، "عنكبوتي"، يتغذّى بالسراب والأوهام، ولا شاغل لهم سوى إضاعة الوقت بثرثرات لا هدف لها... بعيدا عن عالم الواقع والحقائق الملموسة وهموم المجتمع ومشاغل السياسة.. واستطراد بعيد عن المبادئ الكبرى. باختصار حسبناهم في غفلة كاملة عمّا يدور حولهم ولا يعرفون من الزمن سوى اللحظة القائمة وأحاسيسها "السطحيّة"... بعيدا عن عمق الماضي ومشاريع المستقبل.
وكانت المفاجأة الكبيرة في تونس وبعدها في مصر - واليوم في ليبيا وغيرها- عندما رأينا هؤلاء الشباب في صميم توجيه مسار التاريخ في بلدانهم وفي مصير أمّتهم، وفي المحصّلة بمسيرة التاريخ الإنساني كلّه. هذا ما يقرّه سيل التحليلات الذي تزخر به الصحف الغربية كلّها هذه الأيام.
لم ندرك خطأ "ما حسبناه" وما كان يجول بفكرنا من "إدانات" صريحة أو "مستبطنة" لسلوك جيل الشباب فحسب، ولكن أدركنا أيضا مدى عمق فهمه لواقع مجتمعه ولضرورة التغيير.
هذا بجهد ذاتي وعبر الاستفادة مما أتاحته ثورة المعلوماتية من إمكانات التعرّف على ما يجري في العالم ودون الحاجة إلى الأحزاب السياسية وسبلها التقليدية. لقد ساهم هؤلاء الشباب بفعالية في فتح بوّابة الأمل أمام أمّة بأكملها حول مستقبلها.
وساهموا بإعادة نسق الحياة والكرامة لجيلنا الذي عرف كل أنواع الخيبات والهزائم.
نحن الذين كان اليأس ينهشنا وكان المستقبل يبدو لنا "بلا مستقبل". وقد لا يكون من المبالغة القول إننا كنّا نشعر بالخجل أحيانا. قبل تونس ومصر كانت آفاق التقدّم كلّها مغلقة في عالمنا. القراءات المستقبلية الصادرة عن مختلف الجهات ومراكز البحث المختصّة كانت ذلك تقول كلّها. وكان الاستنتاج "المنطقي من هذا كلّه هو أن" العرب لا يسيرون في اتجاه التاريخ"، ولكن باتجاه نهايته "بالنسبة لهم". إنهم مستهلكون وليسوا منتجين ولا يفعلون في شؤون العالم الذي يعيشون فيه بل هم "موضوع للفعل".
كان الإحساس السائد بوجود حالة من العجز العربي العام هو حصيلة الوعي "المتكدّس" في أعماق النفوس.
كل النفوس، من أبسط البشر حتى الرؤوس المفكّرة وأصحاب القرار، ومن زوايا البيوت حتى مؤتمرات القمم العربية. بالتأكيد لم تكن التكنولوجيا هي التي دفعت الملايين المطالبة بالتغيير لميادين مصر، ولكن ضنك العيش وضغط الحياة وانسداد المستقبل. كانت التكنولوجيا هي أداة فعّالة استخدمها الشباب في لحظة عناق بين إرادة شعب وبين واقع مرير.
وكانت انتفاضة تونس قد قدّمت البرهان على إمكانية الفعل بالواقع. وفي مثل لحظات العناق هذه تحدث المنعطفات الكبرى في حياة الأمم. وهذا ما تقوله دروس التاريخ الإنساني كلّه.
وفي مثل هذه اللحظات الحاسمة لا مكان للتوقف والمراوحة في المكان، مهما كانت الحجج والتبريرات. ولا يجدي شيئا رفع علو الجدران وزيادة سماكتها. ولن تنفع مناورات القوى الغربية الكبرى، وعلى رأسها واشنطن، من أجل تحديد سقف يناسبها ولا يقلق إسرائيل.
ما يجري في بلداننا العربية يدفعنا لإدراك أننا نملك منجما جديدا من الشباب الذين يشكّلون نسبة كبيرة في كل مجتمعاتنا، وأن علينا "الاستثمار" فيه. وهذا امتياز كبير آخر بالمقارنة مع الأمم الأخرى التي تعاني من انحسار عدد سكّانها.
الشباب ومعهم الشعب في تونس والجزائر لم يحملوا السلاح ولم يوجهوا البنادق لأحد ولم يُظهروا أي عنف، بل حملوا الزهور واستعدادهم للحوار.
نحن أمّة غنيّة وتستطيع أن تفعل. فقط ينبغي تحريرها من عقالها ومن خوفها.. والجميع في قارب واحد،.. حاكمين ومحكومين.