عاد صاحبي من بلاد العم سام حاملاً شهادته في الماجستير وحط رحاله لإكمال الدكتوراه في أستراليا، دفعته ورقة علمية للذهاب إلى ماليزيا ليقدمها في مؤتمر دولي عن التخطيط الاستراتيجي.

بعد أن التقيت به لمست منه (كليشةً) عامةً يحملها كغيره عن ماليزيا، لم تتجاوز كونها بلداً إسلامياً ووجهة سياحية عامة (ولعرساننا) خاصة، ثم بدأ ينتقد نمطية حياة الشعب الماليزي، وبساطته بدءاً من لباسهم التقليدي إلى مطاعمهم الشعبية المنتشرة في تفاصيل الأحياء الداخلية كأي دولة آسيوية، كان مدهشاً وهو يقارن الحياة الماليزية وطقوسها مع أستراليا وأمريكا، وكانت حدود نظرته كغيره من (العربان) لا تتجاوز شارع العرب وطقوس زائريه، كان حكمه مغلفاً بمحدودية النظر على حضارة دولة، وبدت عليه ملامح الدهشة من سكوتي على آرائه رغم حنقي الواضح، ووعدته بأنني لن أناقش أي رأي له حتى ينهي مؤتمره وحينها سنخوض فعلاً في عالم ماليزيا (الآخر) المدهش!

قدم ورقته العلمية في المؤتمر، واستمع إلى أوراق مقدمة، وتأمل جنسيات وألوان المشاركين، وقابل عدداً كبيراً من الرواد والنخب حول العالم يتقدمهم ضيف الشرف الماليزي مهاتير محمد الذي وقف الحضور مصفقاً له، امتداداً لاحترام العالم بأسره لهذه الشخصية الفذة.

بعدها بدأت رحلتي معه في إظهار الحقائق المعرفية الغائبة أو المغيبة عنه، فدعوته إلى زيارة بعض المتاحف الدولية والجامعات والوقوف على بيئاتها التعليمية مروراً بمدرسة في إحدى قرى ماليزيا تقدم اعتماداً لشهادة الثقافة البريطانية (GCE) التي تخول لطلابها قبولاً مباشراً في أعرق الجامعات الأوروبية!

حدثته بلطف: يا صاحبي إن أردنا تقييم الدول والشعوب والحضارات فعلينا أن نبدأ بمستوى تعليمها، لنعرف أين موقعها من العالم الآن؟ فلا حضارة قائمة دون تعليم جيد.

والتعليم في ماليزيا أصبح جزءًا لا يتجزأ من السياسة التنموية، فقد أخذ نصيبه من التغيير وعمليات التطوير المستمرة والدؤوبة، فعند استقلالها عام 1957م لم يكن هناك أي جامعة في ماليزيا على الإطلاق، وفي عام 1962م تم إنشاء أول جامعة ماليزية، وكان التدريس فيها باللغة الإنجليزية، حتى أصبح عدد جامعاتها الآن 57 جامعة حكومية وخاصة ودولية و487 كلية خاصة و37 كلية خدمة مجتمع و23 معهداً فنياً. ودخلت بعض جامعاتها نادي أفضل 100 جامعة على المستويين الآسيوي والعالمي في عدد من التصنيفات العالمية المعتمدة، ولم يكن دخولها هذه التصنيفات مصادفةً بل كانت له أسبابه، فمرجع ذلك يعود إلى معايير جودة التعليم المعتمدة من قبل وزارة التعليم العالي الماليزية، حيث تعتمد أولاً على عدد ونوعية الأبحاث والباحثين خلال دراساتهم العليا فلا يمكن للطالب التخرج دون أن ينهي ثلاثة أبحاث علمية محكمة غير أطروحته العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ووفقاً لفهرس قاعدة البحث الشامل (Scopus) من عام 2001 إلى عام 2010م نجد 33789 ألف بحث نتاج خمس جامعات (فقط) بناءً على عدد الأبحاث المنشورة من خلالها، واعتمدت كذلك في جودة تعليمها على البيئة التعليمية المؤهلة، فجامعة ملايا ـ كمثال واحد ـ تقدم لطالب الدكتوراه مبلغ 23000 دولار أمريكي لدعم مشروعه البحثي ومبلغ 16222 دولارا أمريكيا لطالب الماجستير معتمدةً في اختيار مجال الأبحاث الموجهة على مبدأ اقتصاد ماليزيا المعرفي، أما تميز الكادر الأكاديمي ومؤهلاته العالية فينطلق من حتمية تطويره لنفسه، فعضو هيئة التدريس على سبيل المثال يُطالب بنشر ما لا يقل عن 12 بحثاً محكماً كشرط للترقية من درجة أستاذ مشارك إلى درجة أستاذ (بروفيسور)!

وتعليم ماليزيا يوفر مجموعة متنوعة من البرامج والمسارات التعليمية للحصول على الدرجات العلمية المختلفة في عدد كبير من المعاهد والجامعات المرموقة بجودة عالية مع انخفاض تكاليف الدراسة والمعيشة مقارنة بالدول الغربية، مما جعلها تنجح في استقطاب 110 آلاف طالب أجنبي من 95 جنسية حتى الآن.

أما مخرجات تعليم ماليزيا يا صاحبي فقد جعلتها تدخل بتفوق في نادي الدول الصناعية الحديثة منذ عام 2004م، كما تم تصنيفها كأكبر مصدر للدوائر الإلكترونية المتكاملة على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية واليابان مباشرة.

ختمت حديثي معه عند وداعه في مطار كوالالمبور الدولي.. "ياصاحبي: من السهل الحكم على دولة ما بسطحية، إن نظرنا إلى طريقة لبس أو مأكل أو طقوس شعبية قد لا تروق لنا، وتبقى المجالات التنموية للدولة ونهضة تعليمها المحك الحقيقي للغة عصرنا المعرفي التي لا جدال فيها!".

تضجر صاحبي من سرد الحقائق وصخب المعلومة، وعند وداعه ابتسمت وهمست له "انظر يا صاحبي إلى المطار الذي أودعك منه فقد مُنح لقب أفضل مطار للعامين 2005م و2007م من منظمة الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا) ومجلس المطارات العالمي، ولو كان وقتك يسمح لحدثتك عن معلومات معرفية وخطة 2020 الماليزية"!