كنت في قبو المطبعة في بيروت أراقب بروفات كتابي الأول الطب محراب للإيمان. وكان أول كتاب لي أشرف على طباعته. تقدم لي طفل صغير بسؤال صغير لماذا حنجرته ملتهبة؟ قلت له ربما لأنه صرخ أكثر من اللازم. قال لي ولكن الأطفال الرضع يبكون كثيرا ويصرخون أكثر ولا يتعرضون لالتهاب الحلق!
فكرت في رده العفوي وقلت: نعم فنحن نقدم الكثير من التفسيرات بسرعة وهي عين الخطأ.
والطفل أذكى بكثير مما نظن، وذاكرته سينما رائعة حين يبدأ بحفظ الذاكرة وهي عادة تبدأ مع السنتين على نحو بسيط ثم تستقر مع سن الرابعة، وأنا شخصيا أحفظ صورة واحدة من جدي عبد العزيز يرحمه الله، ولا شيء آخر.. وكنت أتمنى من والدي أن يحدثنا الكثير عما رأى وعاصر ولكنه بكل أسف كان قليل الكلام ضعيف التعبير همه في تدبير الخبز لعياله فكان مجاهدا رحمه الله ولم يكن مثقفا.
وحين أجتمع بالأطفال أسلم عليهم ثم أرشّهم بالأسئلة: في أي صف أنت؟ كم حاصل ضرب ستة في سبعة؟ متى عاشت الديناصورات؟ أين تقع جزيرة ساخالين؟ أين يوجد برج بيزا المائل؟ من هو أسرع الكائنات جريا وسباحة وطيرانا؟ متى حكم عمر بن عبد العزيز؟ هل ينام الحصان مضطجعا أم واقفا؟ من هو ديكارت؟ متى كانت معركة الخندق؟ لماذا يحب البعوض شرب دمائنا وهل كل البعوض لداغ؟ ما هي أضراس العقل ومتى تنبت ومتى وقعت أسنانه اللبنية؟
أسئلة منوعة في محاولة اختبار ثقافة الطفل وذكائه ، وشحذهما للارتفاع عن مستوى التدريس في المدارس حيث يمطرون بالواجبات، وأتوقع أن يذكروني تماما بعد أن يتقدم بهم السن.
وقبل أيام ضمنا مجلس يجمع بين أناس كبارالسن وفتيات صغيرات فوجهت السؤال نفسه للجميع لاكتشف وعيا حادا عند الصغار وأملا في المستقبل، مقابل قنوط وكآبة الكباروعدم شعورهم بتحرك الزمن.
علينا أن نبني عند أطفالنا ثلاثا: روح البحث بدون ملل. والسؤال بدون خوف. والانفتاح المعرفي بدون حدود.
يجب أن نبني المعرفة الموسوعية طبقا عن طبق، بآلية الحذف والإضافة، بدون خوف من أي علم؛ فما كان باطلا رددناه، وما كان تافها أهملناه، وما كان ثريا استوعبناه، وأضفناه إلى تراكيبنا المعرفية.
علم من علم، وجهل من جهل.
والمعرفة الموضوعية ذهب خالص، تصرف في أي سوق فكرية، والقرآن كون قائم بذاته، لا يناله الزمن والبلى؛ فيجب ألا نخاف عليه، بل نخاف على أنفسنا، وكل الأمان بالتسلح بمفاهيمه.
والمعرفة الموسوعية تبنى أفقيا وشاقوليا بمعنى أننا يجب أن نفتح أذهان صغارالسن خاصة على تنوع العلوم والمعارف وهي تشمل مالا يقل عن خمسة وعشرين حقلا معرفيا من الحقول الكبيرة؛ مثل السياسة والفلسفة والانثروبولوجيا والتاريخ والكوسمولوجيا وعلوم الذرة والتسلح والطب والبيولوجيا وفلسفة العلوم والآركيولوجيا، ومثلها من المعارف الفرعية مثل الموسيقى والرياضيات، والجنس ونشاط الدماغ، والكمبيوتر والعقل، والتصوف وعلم النانو.
بالإضافة إلى تدريب روح النقد عندهم من خلال التجربة والاختبار فيمررون أعظم الأفكار من ثقب الخياط نقدا وتمحيصا حتى تخرج الأفكار في نقاوة عظيمة وتماسك كبير، ونحن مع ذلك على ضعف وغرة؛ فبحارالعلم عميقة وشواطؤه لانهاية لها .
بكل أسف انطفأت الحركة العقلية في التاريخ الإسلامي واستسلم للاتباع والتقليد والتكرارلثقافة انتهت. كما لم يشعرحقا بمعنى الحداثة.
المعرفة الموسوعية تذكرني بحبك القماش من الخيطان، فيتداخل خيط مع خيط، واتجاه مع اتجاه؛ فيتشكل القماش، ويصبح جلدا جديدا فوق أجسادنا؛ فنحن نلبس الأحمر الزاهي والبنفسجي الراقي والأزرق السماوي والأبيض الملائكي وملك الألوان الأسود، أما الحيوانات فهي لا تغير معاطفها وسراويلها وأحذيتها وساعاتها سوى بالاستحمام أحيانا طردا للقمل والبراغيث والفيروسات والحشرات كما تستحم الفيلة في الوحل البارد فتخرج باتساخ أشد ولكن بتخفيف الحر على نحو أفضل.
منه نفهم أن الدخول في نفق التخصص يشبه الدخول بانشفاط إلى ثقب أسود، في حين أن المعرفة الموسوعية تدخل المعلومات على بعض فتكسب الترابط وتدب فيها الحياة لمن يفهم ويعقل.. وهي نشوة أعيش بها دوما فأحمد الله الواهب المنان.