استمتعت فيما مضى من أيام بقراءة كتاب الباحث الكبير العلاّمة فراس السواح والذي أسماه "الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم – نظرية كمال الصليبي في ميزان الحقائق التاريخية والآثارية".. هذا الكتاب عبارة عن مناقشة للدكتور الصليبي الذي ألف كتاباً أثار ضجة كبيرة داخل الدوائر الأكاديمية والثقافية في عام 1985 أسماه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، ذلك الكتاب كان صدمة في وقته، فالدكتور الصليبي قرر أنه وجد بمحض الصدفة، بينما كان يبحث في الأسماء ذات الأصول غير العربية في غرب جزيرة العرب، أن "أرض التوراة كلها هنا في الجزيرة العربية" في منطقة بطول 600 كيلو متر وعرض 200 كيلو متر تشمل عسير والجزء الجنوبي من الحجاز، وأن اليهودية لم تنشأ في فلسطين، بل في جزيرة العرب!! وأن أسماء الأماكن الواردة في التوراة مثل "شمرن" هي "شمران" و "لمعله" هي "المعلاة" و "قادش" هي "عين قديس" وأن " غزة" هي " آل عزة" جنوب النماص وغيرها من الأسماء التي ذكرها في خرائطه، حتى تصل لنجران يام!! ما فعله الدكتور الصليبي هو أنه جعل التاريخ يحكم على الجغرافيا وليس العكس، جعل التوراة تحكم، وقد أوضح فراس السواح كيف أراح الدكتور الصليبي نفسه من الهجمات التي يمكن أن تأتي من علماء الآثار لأن منطقتنا ما زالت مجهولة تماماً من الناحية الأركيولوجية والتاريخية، فليس هناك من يمكن أن يقتفى أثره من هذا الباب، كما تجاهل الصليبي كل مناهج البحث التاريخي واكتفى بالمنهج اللغوي المقارن لإثبات نظريته، وقد بين كتاب السواح حجم الخطأ الشنيع الذي وقع فيه الدكتور الصليبي من خلال الرجوع لوثائق الشرق القديم، من خلال سجلات مصر الفرعونية، وكيف أن حملات تحوتمس الثالث على الشام وفلسطين المسجلة قد ورد فيها ذكر أسماء لأماكن، مذكورة في التوراة المكتوبة، وأن بعض تلك الحملات لم تستغرق سوى عشرة أيام للوصول إلى "غزة" ومن المستحيل أن تكون المسافة التي يمكن أن يستغرقها الجيش المصري من حصن "صايل" المعروف في السجلات المصرية إلى "آل عزة" جنوب النماص في عشرة أيام!! سجلات بلاد الرافدين أيضاً، توافق ما جاء في السجلات المصرية، أن الأسماء التي وردت في التوراة هي أسماء لأماكن في أرض كنعان حيث فلسطين، عندما يتحدث عن غزوات الملك الآشوري غرباً، وتذكر السجلات نفس الأسماء التي في التوراة في تلك الغزوات، ثم يسوق فراس السواح أدلته من خلال أركيولوجيا فلسطين المعروفة والتي لا يمكن تجاوز أسمائها، ويبين أن كل دعوى كمال الصليبي ليست سوى فقاعة صابون وليس لها من الصحة أي نصيب، بل هي تتعارض مع الحقائق التاريخية والفهم السليم، وبين في كتابه ذاك أن دور اليهود في تاريخ الشرق الأدنى تاريخ ضئيل وغير مؤثر وأنه لا يمكن أن يكون قد قام لهم ملك في جزيرة العرب. يمكننا أن نطمئن قليلاً أن اليهود لن يطالبونا في المدى المنظور بأراض لهم عندنا، لكن ما أريد أن أقوله في ختام هذه المقالة هو أن أكبر الدواعي التي دعت الدكتور كمال الصليبي لمثل هذا القول المجازف هو ضعف الجزء التطبيقي من علم الأركيولوجيا في المملكة وما زالت هذه الأرض سرا من أسرار الكون، وكأنما لا يراد لها أن تدرس وتستكشف، كيف يمكن أن نستمر في تجاهل علم الآثار وتجاهل الدور التاريخي الخطير الذي يلعبه هذا العلم، بدعوى أن هذا لا يجوز من ناحية دينية؟ أنا متأكد أن هناك مخارج دينية كثيرة يمكن أن يوصل إليها من هذه الناحية، لكن الذي لا يمكن تصور استمراره هو مواصلة تجاهل هذه الحاجة المعرفية الماسة.