في محاضرته ذائعة الصيت في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهي الجامعة التي باتت تعيد تعريف دورها ورؤيتها بما يمثل مسارا وطنيا إيجابيا، طرح الأمير سلمان الكثير من المعاني والقضايا، منها ما جاء في ورقته عن تاريخ الدولة السعودية، ومنها ما يمكن استخلاصه من خلال الأسئلة والنقاشات، إلا أن مواقفه من قضية الاختلاف مع الكتاب، يمكن أن يكون مدخلا لقراءة مستويين من الوعي السائد في التعامل مع وسائل الإعلام ومع الأفكار والمقالات والرؤى التي تحملها تلك الوسائل.

لطالما تفاجأنا نحن أبناء الصحف السعودية بمقال، نجد أن في خانة الكاتب اسم: سلمان بن عبد العزيز، ومثلما نذيل نحن مقالاتنا بتعريف عن جهة العمل أو التصنيف المهني، يفعل هو كذلك: أمير منطقة الرياض، وغالبا ما تكون تلك المقالات على شكل تداخل مع أفكار وقضايا طرحها بعض الكتاب، وهي ظاهرة قد لا تجدها على الأقل في وطننا العربي، خاصة في زمن ما قبل الثورات، إذ ندرك جميعا ما مصيرالكاتب الذي يسطر مقالا قد لا يروق لمسؤول ما، فما بالك إذا لم يرق لرجل يعد من أبرز الأسماء في الصف القيادي الوطني.

غالبا ما يحمل كثير من الكتاب والإعلاميين السعوديين في ذاكرتهم مواقفا أو لحظات جمعتهم بالأمير سلمان بن عبدالعزيز وإذا به يناقش أحدا ما في مقال أو فكرة طرحها عبر زاوية صحفية، نقاشا يصل حد الاختلاف، أونقاشا يصل إلى حدود الاتفاق والمباركة، وفي ذات الوقت، لا يمكن لأي صحفي أو كاتب سعودي أن يقول إن أمير منطقة الرياض قد اختلف مع مقال لي، ورأى أن من الأنسب أن يتم إيقافي عن الكتابة، على الإطلاق مع أننا وبكل وضوح يمكن أن نقول إن لدى الأميرألف طريقة ليستطيع إيقاف كاتب عن الكتابة، إلا أن الوعي والإيمان بالاختلاف وحرية التعدد في الآراء ودورالصحافة والكتاب، ووطنية الموقف المؤمن بالتنوع؛ كلها عوامل جعلت من الأمير شريكا مؤثرا وبشكل إيجابي في إدارة تلك المعادلة، وتقدم نموذجا إيجابيا للمسؤول الذي لديه أفكاره وقناعاته وتصوراته، ومستعد لأن يدافع عنها بالنقاش والرأي، وأصحاب الفكر الراقي في كل مجتمع هم الذين يؤمنون بأن الأفكار إنما تُدفع أو تبحث أو يرد عليها بأفكار مثلها.

الأمير سلمان رجل لا يعيش أية حالة طارئة، ولا حالة تعتمد على دهشة ما، فهو ابن كل التحولات والمراحل التي مر بها التاريخ السعودي، وكل الظروف التي صنعت الثقافة السعودية والواقع السعودي والأحداث السعودية الكبرى مرت به، وعرفها وتفاعل مع تفاصيلها، واكتسب خبرة واسعة حول كل تلك التحولات، بمعنى أنه تشكل معرفيا وثقافيا عبر مختلف المراحل السعودية وبات خارج معادلة ردة الفعل ليصبح مؤمنا بسياسة تدرك ما هو دورالإعلام وما هو دور الكتاب، وما الطريقة المثلى للاختلاف معهم، حتى بات شريكا في كثير من القضايا التي تداخل معها، واستطاع أن يوجد فيها مستوى يمثل رأيا يطرحه ولا يسعى لفرضه، وهي حالة واعية من حالات التعامل مع الإعلام، وبات في ذات الوقت يقدم نموذجا لتعامل القيادات والرموز الوطنية مع القضايا التي تتعدد فيها الآراء. وكلنا ندرك أن الأمير سلمان لا يمكن تصنيفه فكريا، إلا أنه يمتلك قيما في التعامل مع الأفكار، هي التي منحته هذا الحضور وهذه الشراكة الثقافية الوطنية مع مختلف الفعاليات والكتاب ووسائل الإعلام.

يتعامل البعض بخوف وقلق مع وسائل الإعلام، ويشنون عليها المعارك ويديرون خلافاتهم بطريقة خائفة ومشوشة، وهم في ذلك ينطلقون من أن للمعرفة وللرأي مصدرا واحدا، وسبيلا واحدا لا يجب الخروج عليه، فيفهمون وسائل الإعلام في سياق يخالف صناعتها لدور حضاري ووطني وتنموي.

وفي الواقع فقد أثبتت التجارب أن محاربة الوسيلة الإعلامية مجرد معركة خاسرة، وفي تاريخنا السعودي العديد من التجارب، بدءا من الحرب التي كانت تدور في التسعينيات حول المجلات والصحف، وصولا إلى الحرب على القنوات الفضائية، وكلها معارك انتهت لصالح الوسيلة ودورها.

كان سؤال الشيخ علي الحذيفي في تلك المحاضرة منطلقا للأمير ليؤكد موقفه الحضاري في التعامل مع اختلافات الرأي، وبينما كان سؤال الشيخ دعوة لتقويم مسارالإعلام بما يتفق مع منهج الدولة، وهو سؤال نابع من حرص إيجابي يبديه كثير من الشرعيين بحسن نية، إلا أن الواقع يقول إن الإعلام يقوّم ذاته بذاته من خلال كونه متاحا للجميع ومفتوحا لقبول الآراء مهما اختلفت، خاصة مع ظهورالإعلام الجديد الذي لا يخضع لتحكم ولا لسيطرة من أحد، ومن هذا المنطلق الواعي جاء جواب الأمير سلمان كالتالي:

(الإعلام إذا قصر فلنلفت نظره، وإذا كتب شيئا يخالف المصلحة أو العقيدة فعند طلبة العلم والمفكرين فرصة للرد عليه، وسبق أن قلت قبل هذه المرة في أحد تصريحاتي أوفي إحدى المناسبات: إذا كان من كتب معه حق في نقده فسوف آخذ منه وأشكره عليه، وإذا كان جانبه الصواب (فيما كتب) فقد أعطاني الفرصة للرد عليه، إذن فلنتبع هذا الأسلوب، ولا أحد يمنع طلبة العلم من الرد في أي من أجهزة الإعلام).

يدرك الأمير سلمان أنه يتحدث عن وسائل إعلام وطنية، وعن كتاب من أبناء هذا الوطن، بمعنى أن المشترك بينهم أكثر من المختلف، وأن الهدف الذي ينشده الجميع هوالحفاظ على هذا الوطن وثقافته وتاريخه وبناء مستقبله وأمنه، وهي أهداف تتسع للاختلاف في الرؤية حول تطبيقها والحث عليها، وبالتالي يصبح النقاش والاختلاف حولها مظهرا إيجابيا وحضاريا ويمنح فرصة لنقاشات علمية تؤكد أن التنوع والاختلاف نوعان من أنواع الثراء والتنوع في كل وطن.

ترى كم يؤرق هذا الرد من صعد منبره ليشتم ويقدح ويأتي بفاحش القول ظنا منه أن الحق يأتي صراخا ولطما وهياجا، فالموتورون فقط هم من يشعرون أن الإعلام يخلط أوراقهم، لأنه يقدم خطابا جديدا لم يألفوه منافسا لهم، ويدركون أن صراخهم لن يصمد أمامه، بينما يأتي هذا الموقف الحضاري من الأمير سلمان ليؤكد أن الصواب لا يأتي بالمنع أو الصراخ، إنما يناقش بأفكار مثله.

بدا على الأمير سلمان أنه مغتبط وهو يقول إن من يكتب ما يجانب الصواب قد منحني فرصة للرد عليه، وما ذلك إلا ثقة منه في أن لديه من المعرفة والرأي ما يمكنه من الرد، أما الذين يلجؤون للصراخ فهم من لا يجدون ما يقولونه.