وقفت أتأمل صورة ذلك الشهيد المجهول الذي انتشرت صورته بالفيس بوك وابتسامة مجللة تملأ وجهه فبكيت؛ فليس لي إلا أن أغسله بدموعي وأما الكفن فأوراقي والقرطاس والقلم.

تأملت وجهه، وقرأت ابتسامته، وسألت نفسي من أي مكان أنت؟ من أمك وأبوك؟ كيف قتلت؟ كيف ذقت كأس الموت؟ ولماذا وكيف ابتسمت وأنت تطأ عتبات الآخرة؟

تأملت ثم بكيت ولم أبك منذ زمن طويل بعد فراق ليلى توأم روحي وشعرت بالخجل في مفاصلي من هذا الشهيد المجهول المبتسم في ثورة مصر 2011م...

من قتله؟ وكيف؟ لماذا قتلوه ولم يرفع سلاحا وبندقية؟ آثار الدم على وجهه والأنف ولكن سخرية من فمه توحي باستهزائه بمن قتلوه وسفكوا دمه ..

لقد بكيت فعلا مرتين؛ مرة عليه ومرة على قدر العرب في التغيير هل يجب أن يموت الناس حتى تنصلح الأوضاع؟ وهل لا بد من انهمار الدم حتى يستجيب من بيده القرار؟

من يقرأ التاريخ يصاب بالكآبة أحيانا وبالفرح تارة أخرى، والله سبحانه وتعالى يدفع عجلة التاريخ دوما نحو الأفضل في مثلين من سورة الرعد عن الماء والنار أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال؟ فالتاريخ تقدمي..

ومن هنا كان العزاء الأخروي أن الشهداء لهم أجرهم ونورهم، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من الكرامة ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وفي الإنجيل أن البذرة حتى تنبت لا بد من دفنها بالأرض.

وحسب البوذية فإن الدنيا جسر نمر عليه والأحمق من بنى لنفسه قصرا فوق جسر عابر، فالدنيا ليست مكانا آمنا بحال، وأحدنا يخرج من بيته فلا يعود ..

والفلسفة تقول إن التاريخ جسر من المعاناة على نهر من الدموع.

وجدل التغيير أن التدافع أساسي في تغيير الأوضاع.

ولولا حركة الرياح لهلكنا ولكن من نسيمها العليل نرتاح وننشط فهذا قانون وجودي لا مهرب منه ..

قام بعض المجربين أمام يرقة دودة القز فحررها من العذاب والمشقة فقصرت عن الطيران ..

فكانت المحنة والتحدي شرطا في النضج ..

وحسب توينبي فإن الحضارات لا تقوم إلا في شروط التحدي ..

وفي البيولوجيا السكري يضرب مع الكسل وفرط الغذاء، وما ينقذ الإنسان فرط النشاط واعتدال الغذاء ..

فكلها قوانين كما نرى في النفس والمجتمع والتاريخ والحضارة وعلم الحشرات ..

من كان له أذنان للسمع فليسمع ..

قال المسيح ابن مريم وهو يروي للحواريين ها هو ذا الزارع قد خرج ليزرع، وأمسك الحب فوقع قسم منه فوق الأرض فاحترق، وآخر خطفه الطير، والثالث وقع بين الشوك فاختنق، والرابع وقع في الأرض الطيبة فأخرج أربعين وستين ومئة؟

قال الحواريون لم نفهم؟

قال كم مرة أحدثكم فلا تفهمون، وسمعا لا تسمعون، الحق أقول لكم أن مثل البذرة والزارع هو مثل الحق والباطل؛ فمن أخذ الكلمة بسرعة فتعرض للمحنة انقلب على عقبيه، ومن خطفه الطير فهذا الشيطان أخذه، وأما من وقع في الشوك فهي غرور العالم وشهواته والغنى والمنصب فيمنع النمو ويعيق التنوير والصحوة بسكر من دون خمر، وأما الآخر فهو السقوط في القلوب الطيبة فهذه تنبت العمل الصالح ..

نظر الحواريون في بعضهم وهزوا رؤوسهم وقالوا الآن فهمنا...

أيها الشهيد المبتسم أنت الآن عند مليك مقتدر وبدأت حياتك الفعلية في دار القرار ..