خلال عام 1991 نشرت صحيفة سان أنطونيو لايت الأميركية سلسلة من المقالات بقلم الصحفي "دان كيلي" كشفت عن أساليب الرشوة والاحتيال في محاكم مدينة سان أنطونيو. ونتج عن هذه التحقيقات الصحفية فصل تسعة قضاة ووقف اثني عشر ضابط شرطة عن العمل، والبدء بتحقيقات جنائية وإصلاحات إدارية على نطاق واسع. وفي نفس العام نشرت صحيفة دالاس مورنينج نيوز الأميركية سلسلة من المقالات بقلم الصحفية "أوليف تاللي"، كشفت عن الحالة المتردية للرعاية الصحية في مستشفيات السجون، وضعف تأهيل الأطباء وتدريبهم، ونتج عنها إعادة النظر في نظام الرعاية الطبية ومراجعته بالكامل.

هذا مثال لما يمكن للصحافة أن تسهم به في مكافحة الفساد. صحفي واحد يتمكن خلال عام واحد من مسح الطاولات وإعادة بناء الثقة في النظام القضائي. وصحفية واحدة تنجح في تحسين ظروف الحياة لآلاف البشر وتغيير أحد الأنظمة الحكومية إلى الأبد، فما الذي نحتاجه لكي نرى الصحفي السعودي يقوم بواجبه المهني والوطني في الارتقاء بالمجتمع والمحافظة على منجزات الوطن ومستقبل أبنائه؟ ومن هو الصحفي الذي نريد؟

الصحفي الذي نريد يملك الحق الكامل في الحصول على المعلومات. إنه لا يجلس في مكاتب العلاقات العامة في الدوائر الحكومية والشركات، بل يقف في غرف الصادر والوارد والأرشيف والمخازن. إنه لا يتصفح التقارير السنوية لهذه الجهات بل ينقّب في الملفات والمعاملات والتعاميم والمراسلات والعقود، فالتقارير السنوية المطبوعة في كتيبات من الورق المقوى اللامع والموزعة على نطاق واسع تذكرني بمنشورات المطاعم، حيث تظهر صورة البرجر في الإعلان أكبر من حجمه الطبيعي. هذه التقارير لا تنشر الحقيقة التي يبحث عنها الصحفي الحرّ، إنه يبحث عن نوع آخر من الحقائق، تلك الحقائق التي يودّ بعض الأشخاص أو المنظمات أن تظلّ في طيّ الكتمان. فهل يملك الصحفي السعودي الحقّ في البحث عن هذا النوع من الحقائق؟

الصحفي الذي نريد، يملك الحقّ الكامل في نشر المعلومات. يملك الحقّ في أن يقول للمسيء أسأت، مرفقا بصورته الملونة، والأدلة الحسية التي تدينه. يملك الحقّ في نشر العقود والاتفاقيات والفواتير والتقارير وقوائم الترشيح وغيرها من المستندات. الصحفي الذي نريد، هو الصحفي الذي يخبرنا "من قام بهذا العمل" وليس فقط "ما الذي حدث". إن الصحفيين يخبروننا كلّ يوم بما يحدث في بعض مطاعمنا من فساد وتسمّم وبالصور دون أن يتجرؤوا على نشر اسم المطعم. والنتيجة مجتمع عاجز عن مكافحة فساد الشاورما فكيف بغيره؟!

الصحفيّ الذي نريد، يعمل في مؤسسة لديها القناعة بأن الالتزام بقضايا الوطن والجرأة في طرحها هو السبيل لتحقيق المعادلة الصعبة: بيع المزيد من النسخ دون الوقوع في الإسفاف. فقادة العمل الصحفيّ الذين يعتمدون على صور الفنانين والفنانات ومشكلاتهم وفضائحهم في تحقيق الربح المادي هم عين الفساد الذي يجب البدء بمكافحته. إنهم يهدرون الكثير من الوقت والجهد والمال في تزييف وعي القراء وإغراق عقولهم بالضحالات. وهذه جناية كبيرة في حقّ مجتمع يقول إن وعي أبنائه وعقولهم أغلى ما يملك.

الصحفي الذي نريد، صحفيّ متفرّغ يأخذ كلّ الوقت الذي يحتاجه في البحث والاستقصاء والتحليل والاستنتاج. إنه لا يكتفي بنشر الأخبار على طريقة "هل صحيح يا وزارة..."، "هل يعقل يا معالي...". إنه لا ينشر فاكسات القراء ورسائلهم كما تصله لكي يملأ مساحة ما من صحيفة ما، وهو يتنصل من الخبر ويستدرك بين الجملة والأخرى "هكذا سمعت"، "هكذا وردني الخبر". هذا النوع من الصحفيين غير المتفرغين ينطبق عليهم المثل الشعبي الذي يقول "مدوّر قعود عمته إن لقاه غنّى وإن ما لقاه غنّى"، سيّان عندهم حُلّت القضية أم لم تُحلّ، تُوبع الموضوع أم لم يتابع، بل إن بعضهم قد يعمل في جهة حكومية هو أكثر الناس معرفة بأنواع الفساد الذي يحدث داخل جدرانها من رشوة واختلاس واستغلال نفوذ، ومع ذلك لا يمكن حتى أن يُلّمح مجرد تلميح بما يحدث، لأن في ذلك تضارب مصالح. ونحن نريد صحفيا مخلصا يهمّه فعلا العثور على "القعود" الضائع.

الصحفيّ الذي نريد لا يمكن أن يعمل منفردا، إنه بحاجة إلى المواطن النشط الذي يستعيذ بالله من الجهل والتجاهل والعجز والتعاجز. إنني أرى من النافذة عمّال الشركة الصينية الذين يبنون المدرسة أمام منزلي ولكنهم ليسوا صينيين فأبتسم للمفارقة ولا أطرح المزيد من الأسئلة حتى على نفسي، فهل هو الجهل؟ وصديقتي موظفة الصادر في إحدى الإدارات الحكومية ترى بعينيها فواتير الإدارة من المشتريات تتضاعف شهرا بعد شهر وتعلم ما معنى هذا، ولكنها تتجاهل الموضوع تماما، وكلّ ما يهمّها أن تضع الملف في مكانه الصحيح، فهذا هو عملها. وصديقتي الثانية تعمل سكرتيرة في إحدى الجامعات وتطبع بأصابعها قوائم الترشيح وقد حذف منها أسماء ووُضعت أسماء، وهي تتضايق من ذلك ولكنها تشعر بالعجز عن القيام بشيء حيال هذا الأمر. وصديقتي الثالثة تعمل في إحدى الشركات الكبرى وتلاحظ أن نصف المستشارين غير المتفرغين في الشركة هم من نفس الجهة الحكومية التي ترسو عليهم مناقصاتها، وتفسّر الموقف بأنه تنسيق يحمدون عليه. وصديقتي الرابعة والخامسة والسادسة... في مشاهد يومية أصبحت جزءا من حياتنا نتكيف معها ونصبر عليها، والصحافة الحرّة الجريئة تستفز هذا التكيف البارد والصبر البليد وتستنفر الحسّ السليم لدى المواطن وتستثمر في وعيه وانتمائه كي يعملا معا لمكافحة الفساد ومقاومة الهدر. إن كرتون ورق التصوير يباع في مكتبات شارع العطايف بما لا يزيد عن الثمانين ريالا ولكن الإدارة التي تعمل فيها صديقتي تشتريه بألف ريال، فهل ستستمرّ هذه الإدارة في شرائه بهذا السعر لو أن صديقتي أرسلت الفاتورة بالفاكس لإحدى الصحف ونشرت في صباح اليوم التالي؟!

إن النتائج التي يحققها هذا الصحفي سوف تفعل فعلها في المجتمع. سوف تزحزح بعض القناعات الغريبة المتبناة على نطاق واسع في المجتمع السعودي. فلنتكاشف قليلا. نحن متواطئون على تمجيد اللصوص "ما شاء الله عليه".. "يا حظّ جماعته".. "والله إنه ذهين".. "ما لقاها إلا هو".. نحن متواطئون على كراهية الناطقين بالحقّ "ملقوف".. "نمام".. "دبوس".. "ناشب".. "ما عنده ستيرة".. نحن مجتمع يعشق الطبطبة ويتعامل مع الخارجين على القانون كما يتعامل الوالدان مع ابنهما العاقّ "ولدي حبيب وما عنده خلاف ولكن لا أحد يطيّشه". هذه الثقافة المجتمعية التي تتعاطف مع اللصوص وتنتقد محاربيهم لن تتسامح مع الصحافة الجريئة التي لا تستر ولا ترحم المتسترين، ولكن عندما تبدأ النتائج في الظهور وعندما تنجح الصحافة في القيام بدورها الأسمى في التنوير والإصلاح فإن الجميع – ما عدا الفاسدين – سيقف معها ويساندها.

لأن الجميع – ما عدا الفاسدين – يريدون صحافة مسؤولة، والصحافة المسؤولة ليست أنباء فاسقين. يريدون صحافة حرة، والصحافة الحرة ليست شيطانا أخرس. يريدون صحافة نزيهة لا تُضيّع دم القضية بين قبائل الأسباب ولا تضيع منها الحقائق في زحمة الكلام.

وحين يتحقق ذلك كلّه فإن الصحفيين والصحفيات سيقومون بدورهم الذي لا يمكن أن يقوم به غيرهم في حماية المجتمع من عقوق أبنائه. وسوف يعيدون الثقة في مؤسسات المجتمع وتنظيماته، وسوف يشعروننا بعدالة المجتمع الذي نعيش فيه، ذلك أن صحفيا واحدا يمكنه أن ينجح فيما يعجز عنه ألف مراقب ومدقق لو أننا فقط نعيد النظر في صفات الصحفي الذي نريد.

وبعد.. أطلقوا الصحفيين من عقالهم يأتوكم بالفاسدين قبل أن يرتدّ إليكم طرفكم.