ومثل رواية – ناطقة – من الحرمان والبؤس، يتهدج صوت العم – أبو بكري – الحزين وهو يقلب في أوراق الزمن. ثمانية عقود من الشقاء والشظف، ومن الترحال إلى كل الفيافي والأطراف والمدن البعيدة، وكل هذه العقود الطويلة من عقدة الحياة لم تشفع له أن يهنأ من – الميل الأخير – بلقمة كفاف. كم هي وطأة السنون حين تكتشف بعيد – الثمانين – بقليل أن الزمن يرحل إلى – الصفر – وأن عليك أن تبدأ كل نهار جديد من الصفر.
وكل جملة تخرج من لسان – العم أبو بكري – في مسائنا الطويل لا تخلو من اسم الله، رب أيها الرحمن الرحيم الكريم فاستمع إليه حين ضاقت هذه الدنيا بفاعل خير.
في خبايا هذا الخبت التهائمي الجاف ولد العم أبو بكري وفي حناياه أيضاً ينتظر مجرد مساحة قبر. وما بين المهد واقتراب اللحد، طارد العم لقمة العيش. من حقل إلى الأحساء، ومن نجران حتى حائل. ومرة أخرى لم يشفع كل هذا الجهاد الطويل أن يصل به إلى الكفاف في الميل الأخير. كل نهار لديه يبدأ من الصفر. وفي آخر الثلث الأول من المساء يأخذني العم أبو بكري إلى الأمل المحزن. إلى البيت الذي يحلم أن يراه عشاً لثلاث من – الضعائف – ومثلما قال لي هؤلاء – الضعائف – من بناته الثلاث في كل جملة. وكل جملة من لسانه لا تخلو من اسم الله مثلما لا تخلو من الوجل المخيف وهو يردد مفردة – الضعائف – يحلم في مفتاح لبضع غرف في أطراف هذا الخبت ومن ورائه هؤلاء البنات. يرفع العم أبو بكري أمله على مشارف التسعين، وبالصدفة كنا نسير حول سور المقبرة. بألف ومئتي ريال يتدبر – العم – حياته من مصروف الضمان الاجتماعي. وبثلث – المهية – يتدبر أجرة الشقة التي يظنها مجرد – فصل مؤقت – نحو عبور الحلم الجميل. وفي كل بضعة أشهر يحاول العم أبو بكري أن يرفع جداراً من البنيان. كل بضعة أشهر يرفع فيها مجرد عمود. كل شهر – يكنز – من المصروف كيساً أو اثنين من الأسمنت وكل يوم يرفع نظره في زهو إلى هذا الجماد الثابت. إلى أمل ينمو مجرد بضع طوب جديد كل بضعة أشهر. وكلما ذرع الطريق إلى المسجد – لوى عنقه – إلى اليسار وخمس مرات في اليوم مثل من يظن أن الطوب ينبت كالأشجار. ومرة أخرى مازالت أحلام العم أبو بكري – المعلقة – تبدأ من الصفر. وعلى مشارف التسعين مازالت قياسات الأمل المستحيل تحتاج لبضعة عقود إن كانت رحلة بعض الطوب تقتص من مرتب الضمان بضعة أشهر للجدار الواحد. يحتاج العم أبو بكري أن يعيش عقداً كاملاً من بعد المئة، ربما لينتظر فاعل خير. تحتاج الضعيفة الكبرى من – الضعائف الثلاث، ربما أن تصل إلى الثمانين إذا كانت هذه هي قياسات رواتب الضمان ووفرة الأسمنت والطوب.
وكل ما في – العم أبو بكري – يكشف عورة هذه الحياة، وربما سوأة هذا المجتمع. رجل جاهد في كل الأطراف والمدن ومازال على مشارف التسعين يبدأ الأحلام المستحيلة من الصفر. رجل يسير على مشارف التسعين بجوار أسوار المقبرة ومازال ينتظر أن ينمو الطوب مثل الأشجار وأن يكمل بضع غرف كي يغلق المفتاح على هؤلاء الثلاث الضعائف. رجل يردد مفردة – الضعائف بصوت يقطع نياط القلوب ويستمطر الدموع في هذا المجتمع الذكوري الخالص. في الثلث الثاني من المساء الحزين بدأت معه تفاصيل المشهد الجديد من المأساة. هنا تأتي إلينا – الأم – أم بكري وهي تضع – القدم – مكان القدم السابقة. عظام مهلهلة تتكون فوق بعضها البعض وقد فقدت كل تفاصيل خلق الله السوي في حادث دهس. كانت تبيع الحلوى في المدينة القريبة. حملت باقي المتاع نهاية النهار في كامل الوعي قبل أن تستيقظ على – الوعي الجديد – بعد أشهر في غرفة العناية المركزة. اكتشفوا داهسها الهارب حين استيقظ به الضمير بعد أعوام: جاء إليها معترفاً فأخذته فوراً لتتنازل لوجه الله أمام طاولة القضاء. تقطع الغرفة القصيرة في بضع دقائق. ظهر معوج ويد مشلولة. قلب كسير وباك حزين على بكري الذي مات فجأة قبل عام في ظروف طبية غامضة. كان بكري هو الأمل الثاني بعيد منزل الطوب الذي يرتفع في العام جداراً أو اثنين. منتصف المساء كنت بين الضعائف وبين الوالدين على – كرامة – الفقراء للأغنياء. على مائدة الذين جئتهم بالصدفة أو بغيرها، جائعاً فأطعموني وجئتهم – فارغاً – فشحنوني بذكر الله في كل جملة لا يخلو منها اسم الله وأسماء الضعائف. ودعتهم في الهزيع الأخير من الليل الطويل وهم يتباكون فوق بعضهم البعض ومن كان فيكم حزيناً فليتبدل ومن كان – جافاً – فليبتل بالدموع. شاركوهم ولو بدمعة.