أعترف بأنني أنتمي إلى جيل قديم عرف الحياة البسيطة، التي عشناها قبل طفرة البترول، وحتى مع بداية الطفرة، وكلها تدلل على مجتمع بسيط، وجميل، وعلى سجيته، ودعوني آخذ الجيل الجديد في رحلة إلى ذلك العالم القديم الجميل:-
- مازال حاضراً أمامي منظر والدتي، وهي في حوش البقرة، الموجود داخل بيتنا الطيني، وهي تجمع روث البقرة (مخلفاتها)، وتعمل منه قرصاً ثم تلصقه بالجدار، لكي ينشف، وهو أفضل وقود للطبخ.
- مازال حاضراً أمامي مصافحتي للملك سعود، وأنا يافع، عندما عاد من رحلة علاجية، وأقام الكثير من المواطنين حفلات بسيطة في الأحياء، بحيث يمر جلالته لتناول فنجان شاهي، هنا وهناك، في سيارة مكشوفة، يتقاطر عليه الحاضرون للسلام.
- ما زلت أتذكر تجربة الابتعاث إلى أميركا، والتي تطلبت السفر عن طريق بيروت، وكيف كانت، ومازالت الترويقة (الفطور)، في بيروت، ماثلة في خاطري، حتى اليوم.
- مازلت أتذكر المواقف المضحكة التي مر بها الكثير منا في أمريكا، بسبب الاختلاف الكبير في الثقافة بين الحضارتين، وكم كنت أتمنى أن يقوم أحد بتوثيق تلك المواقف، لأنها كانت فعلاً مضحكة، وهو ما لا يحدث اليوم، لأن أولادنا الذين يذهبون إلى مختلف أصقاع العالم للدراسة، هم اليوم أكثر فهماً لِما يمكن أن يتوقعوه، مما كان عليه جيلنا، ولديّ الكثير من القصص التي تعبر عن ذلك، ولكن ربما بعضها لا يصلح إلا للحديث الخاص.
ولكنني سأسترجع حالة واحدة، وهي أننا كطلبة سعوديين كنا في بداية عقد السبعينات الميلادية نلتقي في العطلات الأسبوعية، عندما يكون الجو جميلاً في مدينة سياتل، في ولاية واشنطن، في إحدى الحدائق العامة، وكنا نصبح تلقائياً مركز الانتباه، والفضولية، لكل الموجودين في الحديقة، لأن رائحة شوائنا وأكلنا مميزة، ولأننا بدونا لهم كأناس سعيدين، ومسالمين (سبحان الله كيف تغيرت الأمور، بعد 11 سبتمبر). وكنا بعد الغداء نحضر الطيران (جمع طار)، ونبدأ في غناء قصائد شعبية، إحداها أغنية ياعيسى أباحي، ومفرداتها تقول:-
ياعيسى أباحي صبري وأمزاحي
أظبيّ الضاحي صـعبٍ عليّـه
لا جيت أضمّه صيّح يـبي أمّه
لا رحمة أمّـه عيّـت عـليّـه
ياعيسى كِنّـه من حـور الجنة
وكان الأمريكان يصفقون، ويسعدون بتلك الألحان ، ولكن اليوم لو أن محامياً أمريكيا يبحث عن الشهرة والمال ، لربما رفع علينا قضية ترويج للتحرش! .
نحن كسعوديين تغيرنا، منذ عهد وجود البقرة كجزء من العائلة في البيت، والأمريكان أيضاً تغيروا، وزاد حذرهم من الحضارات المختلفة، ولكن في خضم كل ذلك، فكلنا فقد عالماً رومانسياً، جميلاً.