كلما ظن الجراح والطبيب أنه أمسك بالأسرار اكتشف عمق جهله، ومرارة التحدي، وأسرار الكون المغلفة بالأحاجي، وتعقيد العضوية، وجدل الجسم بين الصحة والمرض.
في ليلة جاءتنا مريضة تحتاج لعمل جراحي ومن النوع النازف لنكتشف أن عدد الصفيحات الدموية عندها عشر معشار الموجود عند الناس العاديين، كان الرقم عندها عشرين وعند البشر مئتي ألف؟ وأهمية الصفيحات أنها هي من ترقيء الدم، فهي تتكتل على بعضها وتسد ثقب الوعاء، والعملية هي دخول على كهوف الرعب وأنابيب الدماء الخطيرة.
ما العمل؟ إنه تحد شرس أليس كذلك؟
نموذج ثان؛ رجفان أذيني (AF = Atrial Fibrilation)، حيث تتسارع وتتلخبط ضربات القلب فيقذف بالخثرات تترى في كل شرايين البدن فما أصاب عطب وأهلك إن لم يرفع ويزال؟
هذا الرجفان عطب القلب وقذف الجلطات فأصيب المريض بآفة جديدة من انسداد شرايين الساق بالكامل، ويحتاج للمعالجة بمميعات الدم بعد فتح الشريان، واستخراج الجلطات المعيقة لمرور سيالة الدم مهددة الطرف بالبتر، مقرونة بخبطة وعائية في الدماغ!
تقول محظور استعمال الهيبارين ومشتقاته؟ فماذا تفعل؟ إن تركت الساق مات ووجب بتره، خاصة عند المريض الذي تقدمت الحالة عنده وكبر حجم التحدي؟
مريض معتل القلب مسدود الشريان يجب أن يفتح، والقلب يقول ممنوع الفتح فماذا تفعل؟ تفتح الشريان المسطوم عند مريض تحت احتشاء قلب واسع؟ أم تنتظر لحين خروج المريض من آفة الاحتشاء لتمضي في طريق قطع الساق إن لم يكن ساقين؟
مريض قد اندحق الفتق عنده وملأ الصفن يحتاج التدخل الفوري لتكتشف أن عنده طحال عرطل بوزن وحجم بطيخة الصيف!
إن فتحت نزف وملأ كيس الصفن وتموتت الخصية، وإن تركته غامرت بحياته باختناق الأمعاء؟
الأصعب من كل ما مر المريض الأحمق؛ فالجاهل يعالج ويتعلم، ولكن الأحمق أعيت حيلته وصعبت مداراته ومداواته، فيرفض إجراء العملية الجراحية.
مريض انسد عنده شريان البطن ويجب فتحه مثل الكتاب فيقول ابنه اسقه الحلبة يطيب، وثاني انثقبت معدته فوجب رتقها وخياطتها يساق للعمليات فيقفز من الترولي (طاولة العملية) ويهرب لا يولي على شيء، وثالث معتل العين بمرض استقلابي وقد أصيب الساق بالغانغرين وأبوه يرفض البتر، ورابع معه قصور كلوي تنصحه ببدء الغسيل فيهرب ولا يصدق فماذا تفعل؟
كل هذه القصص من الواقع الميداني اليومي تروي معاناة الطبيب والجراح في استقبال الحالات والتعامل مع المريض ومن حوله بحذق ولطف وسياسة وتوضيح وإنسانية ناعمة في حرص واضح على توصيل المريض إلى شاطئ السلامة..