بَعَثَ إلى أصدقائه وأصفيائه رسالة هاتفيَّة يُنْبِئُهم فيها أنَّ روايته "مَقَام حِجَاز" قدْ صَدَرَتْ، وأنَّه يأسف لأنَّه لا يستطيع أنْ يهديها إليهم بنفسه، فهو بعيد عن الوطن، في لندن، يتلقَّى العِلاج.
وسرْعان ما هيَّأْتُ جوابًا إلى أبي غنوة محمد صادق دياب أنَّني سعيد بصدور روايته، ومتشوِّق إلى قراءتها. وقبْل أنْ أُتِمَّ قراءة روايته كانتْ حياته قدِ استوفتْ أجلها:
طَوَى الجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ
فَزِعْتُ فِيهِ بِآمَالِي إِلَى الْكَذِبِ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أَمَلاً
شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يَشْرَقُ بِي
وها هو ذا الأستاذ الجليل والأخ الكبير والنَّاصح الأمين محمد صادق دياب يغادر هذه الدُنْيا الفانية إلى الآخِرة الباقية، ويترك "مقام الحجاز" وحيدًا، ولطالما أصْغَيْنا إليه الأسماع، وهو يتحدَّث حدِيثَ العارف الْمَشـُوقِ، عنْ التَّاريخ غير الـمدوَّن للحـارَة الحجـازيَّة، وعنْ تلك الشَّـخْصِيَّات التي أحبَّهـا مِنْ رُمـُوز الْمَحـَلاَّت القديمة في جدَّة، وكان، بِحَقٍّ، أحد السَّدَنة الكبار لِمُخَبَّآت جدَّة وتراثها.
كان أبو غنوة – رحمه الله – قريبًا مِنْ كلِّ أحد، متواضِعًا، عَفَّ اللِّسان، يَتَحدَّثُ إليك وكأنَّه معْنِيٌّ بك دون سواك، تَطْرَبُ للهجته الحجازيَّة العَذْبة، وهو يُحَدِّثُك في الأدب أو الثَّقافة أو في شأن مِنْ شؤون الصّحافة، وتأنس إليه، وهو يَجُوس في خِلال النَّفْس الإنسانيَّة، في فنونها وجنونها، فاحصًا وكاشفًا، فهو العارف بأسرارها منذ اختار "عِلْم النَّفْس" اختصاصًا له، وهو، في كلّ ذلك، يَغْمُر الجميع بتواضعٍ جُبِل عليه، يرفده ظَرْف حِجَازِيّ تَحَدَّر إليه مِنْ آباء الحارة الحجازيَّة، وتسلَّم أمانة التَّاريخ فكان شاهدًا على العصْر، وكان يَحْلُو له – رحمه الله – أن يصف جِيله بأنَّه "جِسْرٌ" بين جِيلَيْن، وأَحْسَبُ أنَّه نَذَرَ نفسه وثقافته لمدينته جدَّة وتراثها وأهلها، واستطاع أن يَصِل بثقافة الحارَة إلى قرَّائه الذين عَرَفُوا فيه صِدْق اللَّهجة، وحلاوة الأسلوب وخِفَّة الظِّلّ.
رَحِمَ الله الأديب والكاتب والصَّحفيّ والمربِّي العُمْدة محمد صادق دياب وتغمَّده بواسع رحمته، وألهم أهله وذويه ومحبِّيه الصَّبْر والسّلوان.