قل شعراً يا أيها الغائب منذ التوت والنخيل والصفصاف...، منذ الطفولة الممتدة في اخضرار الأرض ورائحة الطين وطعم الحقول...، قل شيئاً عن أنشاصك أيها المسمى باسمها، والمرسومة ملامحك على شواطئ لياليها ونهاراتها...، قل شيئاً يا أيها المالئ فضاءاتها أقماراً ونجوماً وشموساً، وعلى طيبها لم يزل عبق الذكريات.

هل تذكر يا صاحبي...، قلت: كل ما أذكره مات!. فلماذا كلما جئتك تحيي في مآقينا مراسيم العزاء؟!. الحضارة التي تأكل أصالة التاريخ زيف...، الماكينة التي أقعدت الأيادي السمراء زيف...، الفجر الذي لا ينبثق على شاي الفلاح الصباحي زيف...، الطرقات التي لا تهتز تحت أرجل الجمال والأبقار والحمير زيف...، الندى إن لم يغسل وجوه النساء في الحقول زيف...، الجار إن لم يطرق بابي حاملاً شيئاَ من طعامه البسيط زيف...، الأسمنت الذي استغل الثورة والتهم كالوحش حقولنا الخضراء زيف...، أنشاص البصل لم تعد القلب الذي ينبض بالصفاء والبراءة والطيبة...، ذهبت أنشاص ولم يبق سوى البصل!، الناس غير الناس، والشوارع غير الشوارع، والسماء غير السماء، والأرض غير الأرض...، ويبدو أننا سنعيش حتى آخر العمر نلعن التطور الذي يلغي الخصوصية ويحول القرى البريئة إلى مدن باهتة جامدة لا قلب لها ولا روح!.

هكذا وجدت قريتي التي تسكنني منذ الميلاد...، وهكذا كل القرى التي طالتها اليد التي لا ترحم، اليد التي أحلت الجفاء محل الرقة، والتشدد محل التسامح، والجهامة محل البشاشة، والماكينة محل الروح، والأسمنت محل القلب!.

أحن الآن إلى قرية المفتاحة في أبها...، أرى فيها أنشاص القديمة...، أنشاص الروح...، ولكن سرعان ما يتملكني الغضب والضيق حينما أتذكر ورشها الفنية المغلقة، وخلو شوارعها وحاراتها من نبض الفنانين التشكيليين، وبائعي التحف والمشغولات اليدوية التي تعيد إلينا عبق التاريخ ونكهة الماضي الجليل!.

فإذا كانت أنشاص قد خرجت من ذاكرة القرى، ولم تعد صالحة سوى للبكاء على ماضيها، فالمفتاحة لم تزل حية صامدة في وجه التطور المادي الأعمى، ونستطيع - إن أردنا – أن نجعلها مزاراً سياحياً وفنياً وشاهداً على أن التاريخ لا يموت، وأن للأصالة المعمارية دوراً حضارياً وجمالياً وفنياً قادراً على التنوير!.

التاريخ كالقناعة... كنز لا يفنى، فهل سنشهد في مقبل الأيام قرية المفتاحة وقد تحررت من جمودها وسكونها، وعاد إليها الفنانون والحرفيون والمتذوقون، لينبض فيها التاريخ من جديد؟، أم ستولد فيها أنشاص الجديدة، أنشاص التي لم يعد من اسمها سوى (البصل)؟!.