الإصلاح كلمة عظيمة، كلمة تأخذ الألباب، ترددت في القرآن عشرات المرات، هي منهج شرعي، وعقلي، كان في مقدمة المصلحين أنبياء الله المصطفون، وكان كل نبي يقول لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، وجاءت الآيات تترى تشيد بمنهج "المصلحين"، وأخبرتنا بأن الله لا يهلك قوماً وهم "مصلحون".
إن هذا لا يعني أن كل من يركب موجة "الإصلاح"، أو يسمي نفسه بالمصلح قد ختم على نفسه قدسية، أو أعطى لنفسه الحصانة من النقد والتوجيه والمؤاخذة، فالإصلاح يظل دعوى عريضة يركبها الكثير، وكما أعطى الكثير من الناس أنفسهم حق هذا الوصف، فإن للآخرين الحق الكامل في نقد مناهجهم، وتقويم طريقهم، وخاصة إن كان هذا المنهج يتعلق بالدعوى لإصلاح "الشأن العام" الذي هو ملك للجميع، لا يحق لأحد احتكاره لنفسه، أو التحدث باسمه، أو الوكالة المفتوحة عليه.
إن المتابع للحركة الفكرية في السعودية، والراصد للدعاوى الإصلاحية فيها ليدرك كم هي الحاجة ماسة إلى تقويم سلوك المصلحين وطريقة بثهم لأفكارهم الإصلاحية، وخاصة إن كانت هذه الأفكار تنعكس على أبعاد تربوية لجيل الشباب، وتحاول استقطاب الكثير لينضوي تحت لوائها.
لقد خطت الحكومة السعودية منذ تأسيسها خطوات جبارة في مسألة التنمية، وأصبحت في مصاف الدول المؤثرة عالمياً، قامت بهذا في وقت كان المجتمع لا يزال يحبو في مجالات النهضة والتنمية والوعي، وكانت مشروعاتها التنموية سابقة لوعي المجتمع، وخلال هذه الحركة التاريخية انتقل المجتمع الأمي الناشئ إلى مجتمع واع ومثقف، وأصبحت حركة التنمية والإصلاح ليست حكراً على من يرعى التنمية ويقدمها وينفذها، بل أصبحت هاجساً يؤرق الجميع في كل مستوياته، وسمحت وسائل الاتصال ببث روح "التحدي الحضاري الشمولي" الذي يبدأ بالمقارنة بالأوضاع العالمية، ثم فحص وكشف مواطن الخلل في البنية العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة، وهذا يعني أن المثال الذي يطلب ليس هو الماضي المنصرم بل الحاضر الماثل والمستقبل الحلم، وخلال هذه الفترة التنموية في كل مجالاتها تنوعت مشارب الإصلاح، واختلفت في تأسيسها الأيديولوجي والفكري، فمنها ما هو خليط بين الأصالة والمعاصرة، ومنها ما هو أجنبي يستلهم النماذج الأخرى المختلفة في سياقاتها الثقافية والتاريخية، ومنها ما يرشح الرؤية الخاصة البعيدة عن أي مؤثر، ومنها ما هو واقف موقف المتوجس الممانع الذي يرى في كلمة "إصلاح" أبعاداً خفية ومآلات مضرة، مركزاً على نوع واحد من الإصلاح وقد تسبب هذا في تقييده عن التفكير في شأن المستقبل والتركيز والحفاظ على مكتسبات الحاضر حتى ولو كانت ضعيفة ومتكلسة.
إن الصراع الدائر في رؤى الإصلاح، والخلاف في الأولويات والمناهج يجبرنا على التأكيد على مسارين اثنين:
الأول: مسار "الحوار" الوطني الذي يتجاوز النزاعات الفئوية والحزبية ليكون "الوطن" وتنميته وتطوره ومصلحته الحادي الذي يحدو الجميع، قاطعاً حركات الارتحال عن الواقع نفسيا وشعوريا وفكريا، ومراعياً لظروف المرحلة التاريخية والوضع العالمي وتنازع القوى وتصارعها، وهذا بالتأكيد سيدفع إلى الإيمان بضرورة التدرج في الإصلاح والواقعية في طرح الرؤى الإصلاحية واستصحاب ظروف النشأة والتكوين وقضايا الهوية.
الثاني: مسار "النقد" والتقويم والتقييم للمسيرة الإصلاحية، بحيث ننتزع من شعورنا وعقولنا الحساسية المفرطة تجاه النقد، أي الإيمان بضرورة (نقد النقد)، وتشجيع الحركة النقدية لمسارات الإصلاح، سواء كانت دينية أو تنموية، فقد علمتنا التجارب التاريخية أن التساكت على الأخطاء العامة والخاصة يحيل هذه الأخطاء إلى قيم وسلوكيات صالحة، ثم يكلف إصلاحها الشيء الكثير، ولذا صارت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الشعائر العظيمة التي تتجاوز الصورة النمطية المختزلة في بعض مظاهر السلوك الاجتماعي إلى حركة "شمولية" لا تستثني شيئا، وحركة دائبة تسعى إلى عدم تحول المعروف إلى منكر، والمنكر إلى معروف، فتنقلب الموازين وتضيع الحقائق وتتعقد المشكلات بسبب الصمت المتبادل والمجاملات التي لا تخدمها طبيعة الظرف التاريخي والتغير الاجتماعي في العالم العربي والإسلامي.
إن الإصلاح حركة دائمة، كلما توقف توقفت النهضة والتنمية، وهذا يجعلنا نؤكد على أهمية نقده، وتقويم مساره، فهو حياة تفاعلية، تجتمع فيه كل الجهود للوصول إلى حالة من القضاء على المشكلات وحلها، وخلق الفرص النافعة في المجتمع، والقفز بالمجتمع إلى التطور والرقي في كل المجالات.
إن جزءا مهما من نجاح الغرب في حضارته المادية هو "محاسبة النفس" ونقدها وتصحيحها، وإعطاء حركة النقد المكانة اللائقة، وتحول حركة النقد من مجرد خواطر وانطباعات بسيطة إلى حركة علمية تصرف عليها ميزانيات ضخمة.
إن أخطر شيء في حركة نقد مناهج الإصلاح افتراض الحصانة الخاصة والتي تنقل شعور المنقود من الوعي الإصلاحي إلى الخلاف الشعوري، فتبدأ حركة الإصلاح والتقويم تنتج من داخلها مشكلات، فتتحول حركة الإصلاح إلى حركة إفساد، وتهدد المجتمع بمشكلات كبيرة، وتحتقن القلوب والعقول، فتأتي كل هذه الحركة على خلاف المقصود منها، مما يصيب الناس بالإحباط عند تساقط القدوات، وعليه فإن التربية على النقد والتقويم تعد مطلبا استراتيجيا غائصاً في صلب مناهج التعليم حتى يدرك الجيل القيمة الحقيقية من النقد وصلته بالقيم الأخلاقية العليا التي تتقبل النقد وتحرص عليه وتعتبر الناقد بمثابة المحسن الذي يستحق الجزاء الأوفى، ويعلموا أن النقد حياة فياضة، تقيم المعوج، وتحدو الطريق، وتصلح الأوضاع، وتقلل المفاسد، وتحفظ الأمن، وتقطع الطريق على كل مغرض يريد النيل من هذه البلاد، فإن المتسللين لا يجدون فرصة سانحة إلا حين يغيب الإصلاح ونقد الإصلاح، ورضي الله عن الفاروق عمر بن الخطاب حين قال (رحم الله من أهدى إلي عيوبي).