خلال القرن العشرين، كانت السياسة في أغلب دول العالم مكرّسة لخدمة المشروع القومي، سواءً كان هذا المشروع توسعياً كألمانيا واليابان، أيديولوجياً كالاتحاد السوفيتي والصين، دينياً كإيران وإسرائيل، أو استعمارياً كبريطانيا وفرنسا، أو انفصالياً كأيرلندا والباكستان. السياسيون في كل هذه الأمثلة عملوا من أجل تحقيق مطلب قوميّ ما، سواءً طالبتهم به الشعوب أو فرضه عليهم القادة أو أجبرتهم عليه الظروف. لم يشهد العالم أثناء ذلك القرن المنصرم حركة سياسية كبرى كان يقف وراءها دافعٌ اقتصاديّ ملحّ، لاسيما إذا استثنينا ثورات الجياع والفقر لكونها لا تصنف كحركة سياسية بل هي في حقيقة الأمر ناتج مباشر للفشل السياسي. هذا يعني أن الفكر السياسي خلال القرن العشرين بشكل عام كان يتمحور حول القوميّة ومتطلباتها الملحة، أو بمعنى آخر: الاستجابة لرغبات الشعوب في تكوين كيانات سياسية تناسب تطلعاتهم القومية، لاسيما بعد سقوط الإمبراطوريات، وتقلّص الاستعمار، والتحسن النسبي في ظروف الحضارة، مما ساهم في زيادة السكان بشكل عام، وبالتالي ازدياد عدد المنتمين إلى أقليات إثنية إلى حد يمكّنهم من المطالبة بأوطان مستقلة.

شغلت هذه المطالب القومية المتنوعة في العالم أذهان السياسيين بمحاولة إيجاد حلول مناسبة لها، فنجحوا أحياناً في تحقيق المطلب القوميّ بنسب رضا مختلفة وبشكل سلميّ ومستدام، وفشلوا في أحيانٍ أخرى ليتطور الأمر إلى حروب دامية ونزاعات مستمرة ما زال بعضها مشهوداً حتى اليوم. ولكن القرن العشرين انتهى على ما انتهى عليه، بنجاحاته وإخفاقاته، بالفائزين والخاسرين، والظالمين والمظلومين، والمحظوظين والمنحوسين، وأصبح المشهد الدوليّ في آخر القرن العشرين مختلفاً تماماً عما كان عليه في أوله. وبالتأكيد أنه صار مشهداً أفضل. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الباردة، انخفض عدد الحروب في العالم بنسبة 77% حسب (تقرير الأمن البشريّ) الذي تصدره جامعة سايمون فريزر الكندية، وحتى تلك الحروب التي اندلعت بعده ظلت أقل دموية من حروب الأمس، وأقصر زمناً، وأسرع حسماً. وأطلّ القرن الحادي والعشرون على العالم وقد ارتفعت نسبة الدول الديموقراطية بأكثر من 600% عن اليوم الذي أطلّ فيه القرن العشرون. هذه النتائج الجيدة تاريخياً قد تجعلنا نقول إن السياسة لعبت دوراً هاماً في تحسين حياة البشر خلال القرن العشرين مقارنة بالأدوار المحدودة التي لعبتها في القرون التي قبله، والتي ساد فيها قانون القوة العسكرية والشموليات الكبرى.

ولكن هذا المشهد الجديد يتطلّب رؤية سياسية جديدة. نالت أغلب الدول المستعمَرَة استقلالها، وظفرت أغلب الحركات الانفصالية إما بأوطان أو حكم ذاتي، وقامت أغلب الدول الغربية بإصلاحات سياسية تناسب عهودها الجديدة. وقفز عدد دول العالم المستقلة في كيان سياسي موحد من 49 دولة فقط في بداية القرن العشرين إلى أكثر من ثلاثة أضعاف هذا العدد في نهايته، لم تعد هناك مطالب (قوميّة) ملحة لتنشغل بها أروقة السياسة بقدر ما أصبحت هناك مطالب (وطنية) بتحسين مستويات المعيشة، لاسيما وأن القرن العشرين لم يكتف بمضاعفة عدد الدول المستقلة فحسب، بل أضاف أيضاً أربعة مليارات إنسان إلى الكوكب، وهذا العدد الكبير بحاجة إلى (اقتصاد) أكثر مما هو بحاجة إلى (سياسة). الأيرلنديون الذين ظلوا يطالبون باستقلالهم عن بريطانيا طيلة القرن العشرين يطالبون اليوم بإصلاح اقتصادهم الذي دكته أزمة الائتمان الأخيرة، والإيرانيون الذين طالبوا بخلع نظام الشاه المتآمر مع الغرب يطالبون ـ اليوم النظام المؤدلج الخانق الذي حرمهم ـ بالتمتع بنفطهم الوفير، واليابانيون الذين طالبوا برفع علمهم ذي الدائرة الحمراء فوق المحيط الهادي وشرق آسيا يطالبون اليوم بحكومة تعالج اقتصادهم المتراجع يوماً بعد يوم، والبريطانيون الذين طالبوا بالحفاظ على مكتسبات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ويتظاهرون اليوم من أجل ميزانية غير متقشفة تخفف عنهم تكاليف الحياة المتزايدة. وهو الأمر نفسه الذي جعل البورتريكيون عاجزين عن حسم أمرهم حتى اليوم بين إعلان الدولة المستقلة أو التحول إلى ولاية أمريكية خوفاً من التبعات الاقتصادية لهذا الانفصال الذي جعل أغلبهم يختارون (طوعاً) البقاء في ظل المستعمر الأمريكي.

لقد ورث القرن الحادي والعشرون من القرن الذي سبقه قائمة مطالب مختصرة جداً مقارنة بقائمة المطالب التي ورثها القرن العشرون من القرن الذي سبقه. تقلصت حركات الانفصال، وجهود الاستقلال، وتوسعات الأيدولوجيا، وحروب الأديان، وأصبحت الأغلبية الساحقة بين مليارات الكوكب الستة تحمل مطلباً موحداً: الاقتصاد. هذا يعني أن سياسيي القرن الحادي والعشرين يحملون على عاتقهم مهاماً أقل تشتتاً، ولكنها أكثر تعقيداً. وهذه المهام تتطلب ممارسات مختلفة لأنها تنطلق من رؤى مختلفة تماماً. ولعل الذي محّص التاريخ السياسي في القرن العشرين وحفظه عن ظهر قلب يجد صعوبة في إيجاد امتدادات ملائمة له في القرن الحادي والعشرين، وبقدر ما سيكون علمه مفيدا فلسفياً فإن فائدته تتقلص تطبيقياً. فتراجع المطلب القوميّ وتقدم المطلب الاقتصادي يعني أن السياسة أصبحت مسؤولة عن إطعام الشعب بعدما كانت مسؤولة عن حمايته فحسب. وهذه مسؤولية جديدة تتطلب معادلات أكثر تعقيداً. ولعل المقالة القادمة توضح كيف أن هذا المطلب الموحد على جدول أعمال سياسيي العالم جعلهم يعملون معاً نحو صناعة عالم جديد.