المتتبع لتاريخ الابتعاث الخارجي في المملكة يجد أنه بدأ في النصف الثاني من القرن الماضي حيث أرسلت أول بعثة إلى جمهورية مصر العربية بعد تخرجها من مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة لدراسة المرحلة الجامعية، ثم توالت البعثات إلى أوربا، وأمريكا، وبعض الدول العربية، وكان التركيز منصبا على دراسة مرحلة البكالوريوس، أو الليسانس، وبعد إنشاء عدد من الجامعات في المملكة واستيعاب عدد من الطلاب في مرحلة البكالوريوس في مختلف التخصصات تم التركيز على الابتعاث للدراسات العليا (الماجستير، والدكتوراه، والزمالات المختلفة)، والبكالوريوس في التخصصات النادرة، أو التي لا تقدمها الجامعات السعودية ضمن برامجها الأكاديمية في ذلك الوقت، وكان ذلك واضحا في الثمانينيات، والتسعينيات من القرن الماضي.

لقد واجه الابتعاث منذ بداياته وحتى وقتنا الحاضر الانتقاد، أو المعارضة، أو عدم التشجيع من بعض الأفراد الذين لا يدركون أهداف الابتعاث، وأهميته للمملكة، ولديهم نظرة سلبية نحوه، وهذه النظرة غير واقعية، ولا تستند إلى أسس منطقية، فالابتعاث الخارجي له مبرراته، وأهدافه، وقدم للوطن خبرات، وقدرات أسهمت بدرجة واضحة، وملموسة في التقدم الذي نعيشه في وقتنا الحاضر، وشارك المبتعثون بعد عودتهم في تحقيق أهداف الخطط التنموية بالمملكة في كافة المجالات، كما أسهموا في نشر الإسلام وتعاليمه في البلدان التي ابتعثوا لها من خلال إنشاء المراكز الإسلامية، والمساجد، وإقامة المحاضرات التعريفية بالإسلام بشكل عام، والثقافة السعودية على وجه الخصوص، وتصحيح كثير من المفاهيم عن الإسلام، وعن المملكة، كما استفاد المبتعثون من العلوم، والمعارف، والخبرات، والمهارات، التي تقدمها الجامعات والمعاهد المتقدمة والتي لها باع طويل في هذه المجالات.

ومن ضمن ما يعتقده، أو يراه بعض منتقدي الابتعاث الخارجي عن خريجي البعثات الخارجية الذين التحقوا بالجامعات الأوروبية، أو الأمريكية بأنهم أشخاص تأثروا بالغرب، وهذا الاعتقاد مبني على انطباعات شخصية فقط نتيجة لتمتع أغلب خريجي الابتعاث الخارجي بسعة الأفق، وتقبل الحوار، وتقبل الرأي الآخر، واحترامه ومناقشته، وعرض الأمور بنوع من المنطقية، كما أن بعض من تتاح له فرصة الابتعاث، من المنتقدين له قد يتردد في البداية، وقد يرفض فكرة الابتعاث الخارجي، وعندما يقرر - يغامر من وجهة نظره- ويحصل على بعثة، وبعدما يصل إلى مقر بعثته، ويستقر، ويبدأ في برنامجه الأكاديمي، أو في تدريبه، ويتكيف مع البيئة الجديدة يطلب بعضا منهم التمديد لقضاء فترة أطول في بعثته، أما من حصل على الدرجة من هذه الفئة، أو انتهت فترة ابتعاثه، ويلتحق بعمله، أو وظيفته فيتمنى أنها لو طالت مدة ابتعاثه الخارجي، ويلاحظ عليهم التغير الإيجابي في نظرتهم للابتعاث، ودوره، وأهميته، وهناك تغير إيجابي في سلوكياتهم، وأساليب تفكيرهم، ومعالجتهم لكثير من الأمور، والملاحظ أن أغلب المبتعثين للخارج من الذين كانوا لا يفضلون الابتعاث الخارجي بعد عودتهم يتهافتون على حضور الدورات، واللقاءات، والندوات، والمؤتمرات الخارجية في مجالاتهم المختلفة، ويحرصون عليها، والاستفادة منها، وهؤلاء عليهم دور كبير في تصحيح نظرة منتقدي الابتعاث، وتغيير الانطباع غير الصحيح عن الابتعاث الخارجي.

وإدراكا من حكومة المملكة لأهمية مواكبة التطور، والتغيير الكبير في مجالات التعليم العالي التي يعيشها العالم في وقتنا الحاضر، والاستثمار الحقيقي في الموارد البشرية وجه خادم الحرمين الشريفين حفظه الله بإطلاق برنامج الابتعاث الخارجي على مراحل، وتم ابتعاث العديد من الطلاب والطالبات للدرجات، والتخصصات التي تحتاجها مختلف القطاعات الحكومية، والأهلية إلى أفضل الجامعات العالمية في عدد من الدول المتقدمة، وأنا على يقين أن هذا البرنامج هو بمثابة داعم أساسي، ورافد هام للتعليم الجامعي والعالي بالجامعات السعودية، وليس بديلا له، كما شهدت السنوات القليلة الماضية توسعا في إنشاء الجامعات في جميع مناطق المملكة، وأسهم الابتعاث الخارجي مع التوسع في افتتاح الجامعات في تخفيف ضغط القبول الذي كانت تعاني منه الجامعات السعودية قبل ذلك، ونتيجة لذلك اتجهت الجامعات للتركيز على الجودة في كافة برامجها، والحصول على اعتمادات أكاديمية، وإدارية من جهات خارجية متخصصة لضبط الجودة، وهذا توجه محمود، ومتوقع من مؤسسات التعليم العالي لتكون برامجها، ومخرجاتها ذات مستويات عالية، ولها القدرة على المنافسة على مختلف المستويات.

ومع أن الابتعاث الخارجي قد يواجه، بعض الصعوبات، أو المشكلات مثل التسرب من المبتعثين، والمشكلات التي قد يواجهونها، أو يتسببون في حدوثها في بلد الابتعاث، وهذا قد يحدث بنسبة معينة، وتكون مقبولة نظرا للعدد الكبير من المبتعثين في الولايات المتحدة، وبريطانيا بشكل خاص، ومع ذلك بدأ خريجو هذا البرنامج في العودة للوطن، وهم محملون بالمعارف، والخبرات، والمهارات المتنوعة، ولا بد من الاستفادة منهم بأكبر قدر ممكن؛ لأن ذلك استثمار حقيقي في موارد الوطن البشرية، كما أن الأعداد التي ستتخرج من هذا البرنامج في الأيام القادمة ستكون كبيرة، وبحاجة إلى خطة استراتيجية لاستيعابها بعد عودتها في مختلف القطاعات الحكومية، والخاصة، أو الأهلية، ولا نريد أن تعمل أعداد الخريجين من برنامج خادم الحرمين الشريفين على زيادة نسبة البطالة، ولا بد من الاستفادة من الأوامر الملكية الكريمة التي صدرت في توظيف أعداد كبيرة من خريجي هذا البرنامج، ويشار إلى أن برنامج الابتعاث في الجامعات السعودية مستمر في ابتعاث المعيدين، والمحاضرين في مختلف التخصصات لمواصلة تعليمهم العالي للحصول على الدرجات العلمية في التخصصات التي تحتاجها هذه المؤسسات، فشكرا لخادم الحرمين الشريفين على البرنامج الذي هو بمثابة مشروع استثماري مهم في مجال التنمية البشرية.