إذا عرضنا الماء والحليب والشمع والبنزين والبارود إلى الحرارة أخذنا إجابات متباينة؛ فأما الماء فيغلي ويتبخر، وأما الحليب فيفور ويندلق، وأما الشمع فيذوب ويسيح، وأما البنزين فيلتهب مارجا من نار، وأما البارود فينفجر ويتطاير!
والسؤال لماذا اتحد المؤثر وتباينت الاستجابات؟
والجواب هو أن كل حدث يولد تتضافر فيه العناصر الخارجية والداخلية، ولكن الاستعداد الداخلي وطبيعة تركيبه هي التي تفرز سلوكا متباينا وردود فعل مختلفة، فعود الكبريت المشتعل إذا ألقي في برميل ماء انطفأ، وهو ليس كذلك لو ألقي في برميل بنزين اندلق؟
ولعل هذه العقيدة عن تباين الاستجابات هي التي يراهن عليها البعض؛ فيردد الجميع أنا لست مثل غيري!
وفي القرآن يأتي نموذج اليهود والنصارى في محاولة استثناء أنفسهم عن القانون الإلهي، أنهم أبناء الله وأحباؤه؛ فيقول الرب فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق.. في تأكيد منه على تشابه القلوب.. (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء!) نقول هذا القول فيما يحدث في العالم العربي من تغيرات اجتماعية متسارعة؛ فنفطر ونتغدى ونتعشى على الأخبار إلى درجة التسمم، كيف أن الأحداث مشت في قطر على نحو سلمي بأقل قدر ممكن من الدماء والضحايا، وبين قطر انتهى بالحرب والضرب والدم وراجمات الصواريخ كما في المنظر الليبي، بل هناك من راسلني وقال لي أين نظريتك في السلم واللاعنف؟ وهل لو كان غاندي موجودا سينفع في صحراء ليبيا؟ أم كان سيفلح في وجه هتلر والنازية؟ كل هذا يردده الكثير مع تصاعد الأزمة الليبية ودخولها الحقل الدولي في اجتماع أربعين دولة ووفدا في لندن في 29 مارس 2011، فقد أثبتت نظرية التغيير السلمي اللاعنفي التي ننادي بها منذ أكثر من ثلاثين عاما أنها الأسلوب الأجدى في التغيير الاجتماعي، مباركة ثمراته ونتائجه في تحرر الإنسان من القوة وهيبة السلاح وجبروته. وهو نفس السؤال الذي طرح على غاندي وهو يغزل صوفه ويحلب عنزته فكان يجيب وهل العنف بدون آلام؟ والقرآن يقول (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) واستفدنا من مالك بن نبي في علم الاجتماع أن كل حدث هو في علاقة جدلية بين ما قبله وما بعده، فهو نتيجة لما سبقه، وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده. وفي الطب يسعفنا مثل الحمى التيفية في تعميق القانون، وهو ما دفع الألمان إلى ابتكار نظرية المريض وليس المرض؛ فصديقي أبو مروان رحمه الله من بير عجم أصيب بالحمى التيفية فأخذ الدواء المتعارف عليه، ولكنه رسا بعد ذلك في المشفى الإيطالي في دمشق، بعد أن أصيب بالتهاب العضلة القلبية؛ فزاد العلاج والكلفة ودوامة المضاعفات. وهي حالة المريضة عجايب التي أصابنا العجب من حالتها العجاب، فبعد الحمى التيفية أحبت الجراثيم أن تذهب وتبني أعشاشا لها في أنبوب الدم الرئيسي في البدن الأورطا (الوتين أو الأبهر) والسؤال لماذا وهنا بالذات؟ والجواب قسم منه فلسفي؟ وهو السؤال الذي يطرح نفسه علي دوما، لماذا تحب فيروسات البوليو بعد دورتها في الدم أن تأتي فتعشش في النخاع الشوكي وفي القسم الأمامي منه المعروف بالقرون الأمامية، لماذا ولعها بهذا القسم بالذات مما يسفر عنه شلل الأطفال لاحقا، وهي المصيبة التي عاصرها جيلي ممن ولد في خمسينات القرن الفائت فأصيب بها الرئيس الأمريكي روزفلت ديلانو فرانكلين كما أصيب بها أخي ونجوت أنا منها فضلا من ربي ورحمة فلو أصبت بها لغيرت مجرى حياتي تماما فهذه هي الأقدار.