قرار إنشاء هيئة مكافحة الفساد الذي جاء ضمن القرارات الملكية التنموية الأخيرة يؤكد الإرادة السياسية الجادة في محاربة مظاهر الفساد المستشرية في القطاع الحكومي، كما أنه يعكس حجم الاستشعار لهذا الداء الخطير الذي ينخر في جسد القطاع العام. ولا شك أن إنشاء الهيئة يمثل بحد ذاته شكلا من أشكال الشفافية التي تعتبر الأداة الرئيسة في محاربة أوجه الفساد الإداري والمالي، فإنشاء الهيئة وارتباطها بالمسؤول الأول في الدولة يتجاوز الاعتراف بالمشكلة إلى السعي نحو إيجاد الحلول الناجعة والمعالجات السريعة والفعالة، لكن علينا ألا نفرط في التفاؤل ونعتبر أن إنشاء الهيئة ومباشرة مهامها سيقضيان على الفساد وآثاره، فإنشاء مستشفى لا يعني القضاء على الأمراض المعدية والمنتشرة، وإنما يحتاج الأمر إلى منظومة متكاملة من الإجراءات التوعوية والجزائية والإحترازات التنفيذية الرقابية، إضافة إلى نشر وترسيخ الثقافة الصحية الذاتية التي تساعد على مكافحة الأمراض والقضاء عليها وتحجيمها، والكلام نفسه ينطبق على الفساد، فإنشاء هيئة تنظيمية مع ما يحمله من دلالة رمزية على جدية التوجه لا يعني القدرة على مواجهة هذا الغول الضخم الذي تغلغل في جسد القطاعات الحكومية وألقى ويلقي بآثاره السلبية على كافة قطاعات وشرائح المجتمع، وإنما يتطلب الأمر إلى رؤية واضحة وإجراءات تنفيذية موضوعية ومثمرة. وحينما أقول إجراءات موضوعية فأنا أحاول بذلك استبعاد الرؤى والأفكار الحالمة التي تنفصل عن الواقع وتشابكاته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وفي رأيي فإن أول خطوة ينبغي أن تقوم بها الهيئة هي تحديد عمر افتراضي – إن صح التعبير – لوجودها وبقائها، فالأصل في الدول، كما هو الحال منذ تأسيس المملكة، هو عدم الحاجة إلى وجود هيئة حكومية مستقلة تحارب الفساد، فالأنظمة والقوانين والإجراءات التنفيذية يفترض أن تحمل في ثناياها دعائم ومصدات تقاوم الانحراف والتجاوزات، كما يفترض أن يكون المواطن سواءً كان موظفا مباشراً للعمل أو مستفيداً من الخدمة مُحصناً ضد ارتكاب أو مباركة مظاهر الفساد مهما كانت صغيرة وبسيطة وغير مؤثرة. ومثلما أن الأخلاق والتقاليد الاجتماعية العامة تتمتع بالحراسة من خلال آليات الضبط الاجتماعي، فإن من المفترض أن تكون الثقافة الإدارية وأخلاقيات العمل السائدة مُحصنة ضد الفساد بكافة أشكاله ومستوياته. إن المشكلة ليست في الأموال والمصالح العامة المهدرة عن طريق الفساد المخالف للأنظمة والقوانين، فهذه قد لا تنطبق عليها صفة " الفساد " بحسب مفهومه المتداول، وإنما المشكلة تكمن في التجاوزات المالية والإدارية الناتجة عن الفساد المتسربل بغطاء الأنظمة ودعاوى المصلحة وقوى الصلاحيات الممنوحة، فهذا هو الفساد القاتل الذي ينتشر بصمت وهدوء، مُدمرًا الخلايا الإدارية الحية والفاعلة.
وقد يكون من المناسب تحديد عمر الهيئة بعشر سنوات، بحيث تكون هذه الفترة هي المحك الفاصل لقدرتنا على تجاوز الأنظمة والثقافة الإدارية الفاسدة والانتقال إلى أنظمة إدارية حديثة وشفافة ومرنة، والعمل على تَبْيئة ثقافة مهنية مختلفة تقوم على إعلاء قيم النزاهة والكفاءة والجدارة والإتقان والمكاشفة والاختلاف وتعددية الرأي الإداري، وفي المقابل انحسار وتلاشي ثقافة الرأي الواحد والنفاق الإداري والمحاباة والخنوع وتعظيم المكاسب الفردية على حساب المصلحة العامة.
طبعا تبدو مهمة الهيئة في هذه المرحلة صعبة وشائكة، فالفساد كائن هلامي يأخذ أشكالا وصيغا وتمظهرات مختلفة، وإذا كان من السهل تعرية وتحديد ومحاربة أوجه الفساد السافر المتمثل بالرشاوى والتجاوزات النظامية والتزوير والسرقة، فإن هناك أشكالا أخرى من الفساد اكتسبت مع الوقت صفة المشروعية والقبول، ولم تعد محل استنكار أو اعتراض من نسبة كبيرة من شرائح المجتمع، ما يعني أن ثمة خللاً طال القيم والتمثلات الأخلاقية والسلوكية، والأمثلة على هذا النوع من الفساد أكثر من أن تحصى. ويمكن في هذا المقام الاستشهاد بالطريقة التي يُدار بها مشروع إعداد مصروفات ميزانية الدولة، فعند طلب وزارة المالية من القطاعات الحكومية تقديم وإعداد احتياجاتها من مشروعات الميزانية للسنة التالية فإن المسؤولين في هذه القطاعات يتواصَون فيما بينهم على المبالغة في التقديرات والطلبات وكأنهم أمام "غنيمة"، وفي المقابل فإن المسؤولين عن التخطيط في وزارة المالية يستعدون لتخفيض هذه التقديرات والنزول بها إلى أدنى مستوى، وهذا التقليد الإداري السائد والمعلن يرتدي في كثير من الأحيان لبوس المصلحة العامة، ولا يجد من كل الأطراف أي استنكار أو رفض أخلاقي مع أنه – ومن كل الأطراف - سلوك قائم على الكذب والتزوير والمخادعة، وبالمثل فإن استنفاد صرف المخصصات المالية في ميزانيات الأجهزة الحكومية وعدم إعادة المتبقي منها هو بالمنظور السائد حنكة وحصافة إدارية حتى لو كان الصرف في غير محله، فالمدير أو القائد الناجح في الأجهزة الحكومية هو الذي " ينفض" البنود المالية المخصصة قبل تاريخ إقفال الصرف ويقدمها على شكل "هبات " لموظفيه ورؤسائه، والغريب أن هذه السلوكيات لا تجد رفضا أو اعتراضاً من كافة الموظفين سواء كانوا من المستفيدين أو من غيرهم، وقد يكون الإحباط من عدم التجاوب لاعتراضات غير المستفيدين سببًا في صمتهم. هذه الثقافة الإدارية هي التي تقف وراء الكثير من مظاهر الفساد الخفي والمعلن، وهو ما يتطلب من الهيئة الاهتمام بهذه القضية والغوص في جذورها، وقد يكون في تضمين المناهج الدراسية إشارات وموجهات عامة عن أخلاقيات النزاهة والشفافية والعدالة والكفاءة واستعراض تجارب ونماذج الفساد التي انتهت بدول قديمة وحديثة إلى السقوط والفوضى والانهيار، وفي المقابل تكثيف الشواهد عن الدول التي اعتلت مواقع متقدمة في الحضارة والتنمية والتقدم بسبب تمثلها قيم النزاهة والعدالة والشفافية واعتماد معيارية الكفاءة والجدارة في تسنم المسؤوليات العامة، أقول قد يكون لهذه الخطوة دور هام وأثر فاعل في ترسيخ قيم النزاهة والمصلحة العامة في نفوس الطلاب والطالبات ما يؤدي مستقبلاً إلى النفور من ممارسات الفساد واستهجانها واستقباحها، ومثل هذه الخطوة على بساطتها ربما أسهمت، إذا ما صاحبتها شواهد حية من واقع الأجهزة الحكومية، بنشوء جيل ينبذ الممارسات والسلوكيات الخانعة والمتحايلة والفاسدة، وبذلك نكون قد وضعنا أجيالنا القادمة في بداية الطريق الصحيح، ليس لمكافحة الفساد وإنما للحياة بلا فساد.