حرصت ومنذ أكثر من أربعين سنة على غوص أعماق محيطات المعرفة، لوضع اليد على درر المعرفة، ثم محاولة إخراج الإنتاج المعرفي، على شكل موسوعة معرفية تضم حوالي عشرين فرعا معرفيا، من فيزياء الجزئيات دون الذرية، والفلسفة كونها رحم العلوم، مرورا بعلوم الألسنيات والأنثروبولوجيا على خطا الإنسان، وانتهاء بالتاريخ وعلم النفس وعلوم المجرات ومستقبل الكون والخيال العلمي، بلغة بسيطة تجمع بين جمال الأدب ودسامة المعلومات والعمق الفلسفي كل ذلك معطرة بروح القرآن. وتحليق وتخليق دورات من الشباب حول هذا النبع المعرفي في محاولة لتوليد العقل العربي الجديد.
ولقد استفدت من عالم الاجتماع العراقي الوردي الكثير من الأفكار في كتبه القليلة التي نشرها ووقعت تحت يدي كتبه مثل (منطق ابن خلدون ـ وعاظ السلاطين ـ خوارق اللاشعور ـ أسطورة الأدب الرفيع ـ مهزلة العقل البشري ـ موسوعة تاريخ العراق الحديث ـ شخصية الإنسان العراقي) ولقد بدَّل الرجل رؤيتي في العديد من الأشياء ومنها فكرتي حول السفسطائيين، والفرق بين نظام الاستقراء والاستنباط (Deduction, Induction)، وكيف عرقل منطق أرسطو تقدم العلم ألفي سنة بتحوله إلى وثن فكري، ومنها أيضا فكرته حول عمل السفسطائيين قديما في أثينا أنه لم يكن قط للتزويق والتزوير والتلاعب بالحقائق من خلال الكلمات، بل كانت بالأحرى تبسيط المعرفة للناس ونقلها بأدوات مفهومة.
هذه المهمة تذكرني بخماسي التكرار في سورة القمر فالقرآن يكرر جملة (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)، والقرآن نزل قبل 14 قرنا ولكن تأثيره في الإنسان البسيط مثله في الفيلسوف المتبحر، أو الباحث عن كنز معجزاته، أو حتى تصيد كلمات هي أزيد من بلاغة لفظية، لا أذكر ما الذي جعلني أتذكر (فجعلهم كعصف مأكول) حين رأيت الدبابات المحترقة من بقايا الكتائب الأمنية للقذافي في الصحراء الليبية، قلت طيرا أبابيل؟ ثم حجارة من سجيل؟ ثم (فجعلهم كعصف مأكول؟) أظن أن الكلمات واضحات للبسيط العامي حين يرى حجم الدمار من العربات المحترقة والحديد الفظيع وقد شوهته القذائف الأقوى من هذه الطير العجيبة فانطعج وانهرس وذاب واحترق مثل الزبدة أمام عزم السكينة.
مع ذلك لم تشبعني هذه الكلمات فسرح ذهني يتفقد الكلمات مرة أخرى ما معنى أبابيل؟ ما هي طبيعة تلك الطيور؟ ما هو العصف تماما؟ وأي مرحلة من مراحل النبات مثلا التي تصل لمرحلة العصف المأكول؟ طبيعة الحجارة من سجيل؟ ما هو السجيل تحديدا؟ إنها نفس الكلمة تكررت مع قوم لوط الذين انقلبت الأرض ببركان فأصبح عاليها سافلها وأمطر عليها أيضا حجارة من سجيل ما هي؟ هل هي نوع من الحجارة المسجلة بطريقة ما؟ سرحت كثيرة ويوما بعد يوم يتأسس عندي منهج جديد لفهم القرآن باعتماد العلوم الإنسانية المساعدة.
مثلا في قصة الفيل يجب معرفة السنة الميلادية تماما من حملة أبرهة؟ وكيف جاء؟ ومن حرضه على القدوم؟ بل وعرضها بالصور والبيانات التاريخية، هنا تظهر الحقيقة على وجه نقي مختلف؛ فيزداد معنى الآية ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتو الكتاب.
السفسطائيون في أثينا يذكرونني أيضا بما ينقل عن الشيوعي الصيني ماوتسي دونج أنه كان يرى أن العمل الثوري الفعلي هو نقل الأفكار العظيمة بكلمات بسيطة، وليس العظيم إلا بظهوره المتواضع البسيط، ومنه نفهم سر إقبال الناس على قراءة الكتب المقدسة من الإنجيل والزبور والتوراة والتلمود وتعليمات كونفوشيوس أو الطرق الثمانية لبوذا ورسائل بولس الملحقة بالإنجيل والفيدا والأوبانشيد الهندي لأنها كتبت بلغة بسيطة محببة على شكل قصص ومواعظ لطيفة فيقبل الناس على قراءتها بشغف، أما القرآن فهو شيء آخر يقبل الشباب على حفظه عن ظهر قلب، وأنا حينما بدأت في حفظه لم تكن خطتي كذلك ولكنه سحبني إلى أغواره السحيقة فذبت في المعنى والمبنى من بحار الحب الرباني.
ومن الكتب اللذيذة التي اقتنيتها في تبسيط المعرفة هي لرجل ليبي فأقنعني الصادق النيهوم بجدوى العقل العربي، فالرجل قد جمع بين حلاوة الأسلوب وعمق المعنى وجدة الأفكار ما يعتبر من السحارين في الكتابة وهو من جماعة السفسطائيين المحدثين..
ليس الفيلسوف من يبهم في كلماته، ويبحث عن الغريب في مرادفاته، بل هو من حوَّل أفكارا بوزن الجبال إلى وحدات معرفية لذيذة مثل تناول شوكولاته جالكسي، وهي مهمة ليست في متناول كل يد، وهي تحدّ لمن أوتي إلى ذلك سبيلا.
وأعرف أنا هذا الشيء تماما بعد أن لانت لي الكلمة وانصقلت، فقد كنت بالأول أتعب في تسطير مقالة، أما اليوم فقد أمسكت بناصية الكلمة بحيث أجتهد أن أصيب وبقليل من الكلمات هدفي.. وتبقى الكتابة فنا لمن استطاع إليه سبيلا.