أكد أمير منطقة مكة المكرمة، رئيس مؤسسة الفكر العربي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أن إنقاذ اللغة العربية يمثل القضية المحورية التي ينبغي أن يركز عليها المشروع الثقافي العربي خلال العقدين القادمين، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن قضيتي التضامن الثقافي وترسيخ مبدأ المسؤولية الاجتماعية لرأس المال هما على رأس أولويات مؤسسة الفكر العربي.

وأضاف الأمير خالد الفيصل في كلمته التي افتتح بها اللقاء التحضيري الأول للقمة الثقافية العربية الذي انعقد في بيروت أول من أمس بدعوة من مؤسسة الفكر العربي بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (ألكسو) تحت مظلة جامعة الدول العربية واختتم فعالياته أمس، أن هذا اللقاء يأتي تتويجا لجهود مخلصة تسعى إلى وضع قضايا الفكر والثقافة في مكانها الصحيح من الاهتمام والرعاية على أعلى مستوى وتفعيل التضامن الثقافي العربي وترسيخ مبدأ المسؤولية الاجتماعية لرأس المال مؤكداً أن هاتين القضيتين على رأس أولويات مؤسسة الفكر العربي.

وأوضح أن التضامن الثقافي العربي ضرورة لتوظيف القواسم الثقافية المشتركة للأمة لكي تصبح أساسا لمشروع نهوضي عربي مستحق.


رأس المال

وأشار رئيس مؤسسة الفكر العربي إلى أن المسؤولية الاجتماعية لرأس المال هي شرط لا غنى عنه لنجاح أي جهد ثقافي في عصر تسود فيه ثقافة تكامل أدوار المؤسسات الرسمية والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي، وقال: لقد كان لمؤسسة الفكر العربي وهي تحتفي هذا العام بعشريتها الأولى شرف الدعوة إلى هذه القمة الثقافية العربية، وشرفت بأن أنابني المشاركون في مؤتمر حركة التأليف والنشر في العالم العربي في بيروت مطلع أكتوبر الماضي لتوجيه رسالة بهذا المعنى إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى, وكان لتجاوبه الكريم دور كبير في تبني هذه الفكرة, فدعا إلى لقاء تشاوري في مقر الجامعة في القاهرة في يناير الماضي حضره نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، وتم في هذا اللقاء الاتفاق على عقد عدة لقاءات تحضيرية لبحث فكرة الدعوة إلى القمة الثقافية ثم جاء إعلان (سرت) الصادر عن القمة العربية الأخيرة في ليبيا تتويجا لهذه المبادرة بالنجاح، حيث تضمن البند الرابع عشر من الإعلان التوجيه بعقد قمة عربية للثقافة.

وحيا الأمير خالد الفيصل في ثنايا كلمته القادة العرب الذين وضعوا - بقرارهم هذا - الثقافة و المثقفين في بؤرة الرؤية بأعلى قمة الهرم.

وتابع: "اليوم ينعقد هذا اللقاء التحضيري الأول الذي عهد بتنظيمه إلى مؤسسة الفكر العربي من خلال لجنة تنسيقية مشتركة مع الإخوة في الجامعة العربية و (الألكسو) ليكون منبراً حراً ومفتوحاً لكل المفكرين والمبدعين العرب وممثلي المؤسسات و الاتحادات والنقابات والتجمعات الثقافية، رسمية وأهلية، لكي يقدموا ما لديهم لاستنهاض قدرات الأمة ويرسموا خارطة الطريق للتنسيق وإقامة الشراكات وحشد الجهود وتكامل الأدوار في فرصة تاريخية فريدة لدفع العمل الثقافي العربي المشترك قدما إلى الأمام".

وأفاد سموه بأن التقرير العربي السنوي للتنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي قد كشف عن عمق الأزمة المعرفية والثقافية العربية في مجالات حركة التأليف والقراءة والمعلوماتية والتعليم والخطاب الثقافي في وسائل الإعلام والإبداع، وقال: "وفي مواجهة هذه التحديات تبرز وبالدرجة الأولى ضرورة إنقاذ اللغة العربية من التراجع في ديارها تحت وطأة انتشار اللغات الأجنبية، وفي مواجهة حركة التقدم التقني التي تتطلب أشكالاً من التطوير والتحديث".

ومضى سموه يقول في هذا المجال "لقد بلغ التراجع حد الأزمة التي تهدد هذه اللغة العريقة الثرية والتي هي بكل المقاييس جزء هام من تراث الإنسانية"، مستدركاً: "على أننا حين نطالب بإنقاذ لغتنا لا ننطلق من اعتبارات الانغلاق بل نسعى لإثراء التنوع الثقافي العالمي الذي طالبت منظمة اليونسكو بحمايته بموجب اتفاقية دولية في عام 2004"، مشيراً إلى أنه "في إطار السعي يأتي اهتمام مؤسسة الفكر العربي بالترجمة للتواصل والانفتاح على لغات العالم وثقافاته عبر مشروع (حضارة واحدة) الذي بدأ إصداره باللغتين الفرنسية والصينية، والذي سيتوالى تباعا عن لغات أخرى، كما أن الترجمة حاضرة في هذا اللقاء من خلال لجنة تحالف القيم وحوار الثقافات ولجنة أخرى خالصة للترجمة". وخلص سموه إلى القول: إن أهم التحديات المعرفية التي تواجه الثقافة العربية هي ضعف المحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت وغياب الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى عن المبادرات التي أطلقت في هذا الخصوص, مشيراً إلى أن مؤسسة الفكر العربي أعدت مشروعا تصدر فيه عن أكثر من 50 خبيراً عربياً أول دراسة إستراتيجية عن هذا المحتوى.


مقترحان

وأبان سموه أن هذا اللقاء التحضيري سيناقش كذلك قضايا مثل الإبداع وحماية الملكية الفكرية وحماية التراث وثقافة الطفل والشباب والسوق الثقافية العربية. وطرح رئيس مؤسسة الفكر العربي في ختام كلمته على المشاركين في الملتقى مقترحين للدراسة والتمحيص الأول أن يركز المشروع الثقافي العربي للعقدين القادمين على قضية محورية واحدة هي إنقاذ اللغة العربية بوصفها أهم القضايا الملحة على المشهد الثقافي والثاني هو إنشاء صندوق تمويل ثقافي عربي يتم توفير موارده من مساهمات حكومات الدول العربية وتقدر حصص الدول فيها طبقا لمعايير يراها القادة، داعيا الموسرين العرب إلى الإسهام بدورهم في تمويل الصندوق للإنفاق على المشروعات الثقافية العربية التي تخدم القضية المحورية التي توافق عليها القمة الثقافية العربية. وقد حضر حفل الافتتاح وزير الثقافة اللبناني سليم وردة، والأمين العام المساعد، رئيس قطاع الإعلام والاتصال بجامعة الدول العربية ممثلاً للأمين العام لجامعة الدول العربية محمد الخمليشي، والمدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) الدكتور محمد بن عبدالعزيز بن عاشور، والقائم بالأعمال في سفارة خادم الحرمين الشريفين عبدالله الزهراني، وسفراء الدول العربية المعتمدون لدى لبنان، وعدد من المفكرين والمثقفين والكتاب والأكاديميين العرب والأدباء من مختلف الدول العربية.

وألقى وزير الثقافة اللبناني كلمة رحب خلالها بالقمة الثقافية العربية، وأكد أن اللغة العربية تحتاج إلى قمة خاصة بها في ظل حملات التشويه التي تتعرض لها.

وشدد الوزير وردة على أن عقد القمة العربية من أجل الثقافة سيكون مناسبة لمعالجة قضايا الثقافة في مدلولاتها الواسعة وفي مجالاتها المتعددة.





صورة الإنسان

من جهته، أشاد الخمليشي في كلمة مماثلة بالدور الرائد الذي اضطلع به الأمير خالد الفيصل ومؤسسة الفكر العربي من خلال الدعوة لعقد قمة عربية ثقافية في ظل تغيرات ثقافية واجتماعية أفرزها النظام العالمي الجديد كنتيجة للعولمة.

وركز الخمليشي على بعض المواضيع الأساسية منها العناية الكاملة بتحسين صورة الإنسان العربي ودحض الادعاءات والافتراءات والتشويه الذي يلصق به، مع ترشيد الخطاب وإحسان الحوار، إضافة إلى الاعتناء بالأجيال الصاعدة بدءاً بمراجعة المناهج التعليمية وتكوين المعلمين والأساتذة وتطوير الأسلوب وتربية الشباب على الاعتزاز بتاريخ أمتهم وحضارتهم وقيمهم، لافتاً إلى ضرورة التفكير الجاد فيما تعانيه اللغة العربية من معضلات أساسية، وضرورة إيجاد الحلول العملية لها، ومواكبة التقدم التكنولوجي واستعمال التقنيات الحديثة، وترشيد الخطاب الديني باعتبار أن الإسلام دين الرحمة والتعايش والتسامح، بالإضافة إلى الارتقاء بالإعلام العربي الخاص والعام إلى مستوى المسؤولية في التعامل مع القضايا الثقافية بأبعادها المختلفة.

بدوره رأى ابن عاشور أن المرحلة الإعدادية للقمة لا تقل أهمية عن عقد القمة نفسها من خلال استشارة المثقفين والمفكرين والإعلاميين المتخصصين والحوار معهم والإصغاء إلى تطلعاتهم ومقترحاتهم، وشدد على أن هذه القمة مناسبة تاريخية وحضارية للنهوض باللغة العربية ونشرها عالميا, مبيناً أن ذلك يتم بتضافر جهود الحكومات والمثقفين والقطاع الخاص لتحقيق هذا الهدف.

كما ألقى الأمين العام لمؤسسة الفكر العربي سليمان عبدالمنعم كلمة أكد فيها أن الهدف من هذا اللقاء هو التركيز على مناقشة حزمة المشروعات الثقافية في ضوء نتائج استطلاع الرأي الذي عبّر خلاله المثقفون عن تطلعاتهم من القمة الثقافية المرتقبة.


لجان البحث

وناقش المجتمعون في اليوم الثاني للقاء التحضيري للقمة الثقافية أمس - عبر أربع جلسات - المشروعات والمبادرات التي قدّمها المثقفون العرب عبر استطلاع الرأي الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة وشمل 230 مثقفاً من 19 دولة عربية.

وتوزّع العمل في جلسات أمس على ثماني لجان فرعية بحثت كلّ لجنة في إحدى القضايا المدعمة بورقة خلفية تتعلق بموضوع النقاش. واللجان هي: لجنة إنقاذ اللغة العربية، لجنة حماية التراث، لجنة الإبداع وحماية الملكية الفكرية، لجنة رعاية ثقافة الطفل والشباب، لجنة تحالف القيم وحوار الثقافات، لجنة المحتوى العربي الرقمي على شبكة الإنترنت، لجنة السوق العربية المشتركة، لجنة الترجمة.

وقد رأس عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة ودمشق، عضو الأكاديمية المغربية، المدير السابق لجامعة الملك سعود، أحمد بن محمد الضبيب، لجنة إنقاذ اللغة العربية التي ركزت على مجموعة محاور أبرزها تشخيص أوضاع اللغة العربية وتعيين المشكلات التي تعاني منها ومكامن الضعف والقوة، وتفعيل المواد المتعلقة باللغة في الدساتير والقوانين العربية، إلى وضع سياسة لغوية واضحة لدعم هذه اللغة وإنشاء مجلس أعلى في كل بلد عربي يتولى دراسة أوضاع اللغة العربية.

أما لجنة حماية التراث فترأسها رئيس المجلس الأعلى للتربية والثقافة الفلسطيني يحيى حسن خلف فركزت على أهمية الحفاظ على التراث الشفهي أو غير المادي لعلاقته الأساسية بالهوية، وقررت اللجنة وضع نقاط محدّدة يمكن تنفيذها على أرض الواقع للحفاظ على التراث العربي البالغ من العمر خمسة آلاف سنة.

اللجنة الثالثة التي أخذ موضوعها حيزاً واسعاً وحامياً من النقاش كانت لجنة الإبداع وحماية الملكية الفكرية التي ترأسها أمين عام اتحاد الأدباء والكتّاب العرب محمد سلماوي، حيث تركّز النقاش على موضوعات النشر والقارىء وحقوق المؤلف، وضرورة تحديث القوانين التي ترعى انتشار الثقافة وحماية حقوق المبدع مالياً وفكرياً وأخلاقياً. لجنة رعاية ثقافة الطفل والشباب واحدة من أهم اللجان التي كانت معنية بالموضوع الثقافي وهمومه لغياب الاهتمام الثقافي بالطفل والشباب من جهة، ولتأثير التثقيف في تلك المراحل العمرية في الثقافة العربية المستقبلية. وقد ترأست اللجنة وزيرة الثقافة السابقة في سوريا نجوى القصاب حسن.

وشهدت اللجنة الخامسة تجاذبات مختلفة، بعضها يتعلق باسمها أي "لجنة تحالف القيم وحوار الثقافات" وبعضها يتعلق بمعنى كل مفردة على حدة (قيم - حوار). وقد اعتبر بعض المشاركين أنه لا جدوى من ربط القيم بالحوار، فالقيم معطى اجتماعي يتعلق بالمجتمع نفسه بينما الحوار يتعلق بمجتمعين مختلفين أو بثنائيتين يفترض قيام خلاف بينهما. وترأس هذه اللجنة عضو مجلس أمناء مؤسسة الفكر العربي الشيخ صالح كامل. المشاركون في لجنة المحتوى العربي الرقمي على شبكة الإنترنت دخلوا مباشرة في الموضوع وناقشوا خلاصة التوصيات الواجب تقديمها إلى زعماء الدول العربية في قضية المحتوى الرقمي، من أجل رسم سياسات تحسين هذا القطاع وتبني برامج عمل في هذا الخصوص.

وأثير خلال الجلسة تحديد لمفهوم المحتوى الرقمي وصفاته في العالم العربي بدءاً بعدد المواقع الإلكترونية الصادرة باللغة العربية وعدد الصفحات والمواقع المسجّلة في مواقع البحث الكبرى وجودة ونوعية المحتوى. كما أثيرت إشكالية ارتباط المحتوى الرقمي بالحياة اليومية للمواطن العربي ومدى نجاح هذا المحتوى في تقديم قيمة مضافة خدماتية، وقد ترأس اللجنة خبير استراتيجيات الحاسب الآلي نبيل علي.

في لجنة السوق الثقافية العربية المشتركة التي ترأسها المفكر المصري، عضو الهيئة الاستشارية لمؤسسة الفكر العربي مصطفى الفقي، تمحور النقاش حول كيفية بناء سوق ثقافية عربية مشتركة عبر تقديم توصيات يؤخذ بها في التشريع العربي القممي، إضافة إلى موضوع الإرث العربي ووجوب الحفاظ عليه بشموليته عبر تشريعات قممية صارمة، وأثير دور القطاع الخاص ووجوب اضطلاعه بدعم شركات التوزيع والنشر.

وفي لجنة الترجمة تمّ التطرق إلى عدد كبير من القضايا تدور في الاتجاهين المتعاكسين: اتجاه الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، ومن العربية إلى اللغات الأخرى. وعرض بعد المشاركين لأهمية حركتي الترجمة والنقل في بدايات الدولة الإسلامية في نقل المعرفة والعلوم وتبادل الثقافات. وتم البحث أيضاً في مواضيع تتعلق بحاجة الشعوب العربية إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى من دون إغفال أهمية نقل الثقافة العربية إلى شعوب العالم الاخرى.

وقد اختتم اللقاء باجتماع للجنة التنسيقية لصياغة توصيات اللجان، أعقبها عند الثامنة مساء جلسة ختامية لإقرار التوصيات النهائية الصادرة عن اللقاء.




حضور كثيف خلال افتتاح اللقاء التحضيري الأول للقمة الثقافية في بيروت