لست بأول ولن أكون آخر من قال أو سيقول إن بعض الفتن التي تضطرب بها المجتمعات الإسلامية في الحاضر وعبر التاريخ إنما أقبلت نتيجة للفهم الخاطئ الملتبس للدين، إفراطاً أو تفريطاً. قال بهذا كبار العلماء، وصدحت بهذه الحقائق عشرات الكتب، ونطقت بهذه الحالة مئات المحاضرات والمواعظ. أعيد تكرار نفسي لشرح الالتباس والتأويل الخاطئ الذي استقبل به البعض (رأيي) ما قبل الأمس عن الفتن وتدبرها ما بين العلماء وبين العامة. ومن المجافاة للحقائق والوقائع أن يرى (البعض) مثلما كان في كثير من الردود أو الرسائل التي استقبلتها، أن العامة هم من يصنعون الفتن وأن العلماء هم من يتدبرونها ويقبرونها تصدياً ويقظة.
هنا يجب التفريق الواضح بين كتلتين من المشتغلين بالعلم الشرعي؛ الكتلة التي تستبصر مصالح الأمة العليا وتضع (مقاصد الشريعة) أساساً للحكم على الفتن والنوازل، ونحن لم نعدم ـ ولله الحمد على الدوام ـ وجود هؤلاء، مثلما أثبتت البراهين أيضاً أنهم في نهاية الأمر من يحظون بثقة المجتمعات وقبولها، لأن الدين في الأساس فطرة معتدلة وسوية. الكتلة الأخرى هي التي تأخذ تأويل نصوص الدين لإحداث فتنة عبر الغلو في التفسير، ومن ثم (نمذجة) الوقائع على أساس فهم متعسف له ولنصوصه. وتبقى الحقيقة، التي لن يستطيع أن ينكرها أحد، أن الفتن الجوهرية والمفصلية في تاريخنا القديم والحاضر قامت على أسس تفسيرية دينية، ونحن حتى اللحظة لا نزال ننسبها لأسماء رموزها الذين ابتدؤوها وابتدعوها وهم يظنون أنفسهم من (كتلة العلماء) ومن كبار المراجع التي اشتغلت بالشرع وعلومه. فرقة الخوارج الأولى نشأت على تفسير ديني لأناس (تحتقر صلاتك جنب صلاتهم) مثلما كانت فتنة خلق القرآن تدعمها آراء من تسموا (بالعلماء) لدى بلاط المأمون، تماماً مثلما هو القياس مع جل الفتن. جهيمان استباح الحرم الشريف تحت (فتوى) بعض هذه الكتلة التي كانت تجوب الجوامع والمساجد في محاضرات كثيفة تحت الغطاء الديني. وحتى مع فتنة الإرهاب أين ستضع الخضير والفهد والخالدي، حتى وهم يتسلحون بأعلى الشهادات المتخصصة ويقدمون أنفسهم كطلبة علم. وحين نقول إن بعض (الفتن) قامت على تفسير ديني، فإن هذا لا يعني أن المدارس الأخرى لم تحدث فتنها ونوازلها الكارثية على الأمة، وكان لها تأثيرها السلبي وويلاتها وطوامها الفكرية. خذ الفكرة (القومية) و(البعثية) كأمثلة وانظر من ثم لضحاياها بالملايين وإلى أين أوصلت هذه الشعوب الثائرة.