سقط النهج البرجماتي لعصابات الإتجار بالكرة, وعلت إرادة شعب جنوب أفريقيا في إنجاح تنظيم المونديال.. سقطت الإمبراطوريات الكروية, وتألق المهمشون على أطراف الأرض, انتحرت الهوية اللاتينية على أعتاب المدرسة الأوروبية, وتعطلت الطاحونة الهولندية لتخليها عن سماتها الشمولية, وترنحت القطط السمان, وقفز السياسيون على الحدث باقتدار.

تلك هي الخطوط العريضة لمردود بطولة كأس العالم رقم 19 التي اختتمت الأحد الماضي في جنوب أفريقيا, وهناك من شوه وجه "الجميلة" فتحولت لهفتنا لحضور عرسها إلى شفقة ودعاء بالشفاء.

أجزم أن ذاكرتنا الكروية لن تحتفظ من أحداث مونديال القارة السمراء, سوى باسم البطل الجديد المنتخب الإسباني .

النسخة 19 من كأس العالم, إن لم يعتبرها القائمون على إدارة هذه اللعبة, جرس إنذار, سيتوارى المونديال, أمام الدوريات الأوروبية وكأس أمم القارة العجوز التي باتت تشبع شهية المشاهد الكروي بالمتعة والإبداع المهاري للاعبي الكرة.


عودة بالذاكرة

كأس العالم في السابق كان مناسبة ولا أروع لتقدم المنتخبات أرقى ما وصلت إليه من فنون, عبر ما يستعرضه لاعبوها من مهارات كروية تمتع جماهير المونديال، حتى كانت هذه الجماهير تلفظ المنتخب الذي يؤدي بأسلوب دفاعي خال من الجماليات الهجومية, حتى وإن فاز, وتشجع المنتخب الذي يقدم لاعبيه المهارة الراقية حتى وإن خسر.


العولمة والهوية

من أهم السلبيات التي كشف عنها مونديال جنوب إفريقيا, أن جميع الأمم الكروية "المدارس" تخلت عن خصوصيتها وهويتها, وتجاهلت ثقافة شعوبها ومفهومها نحو لعب الكرة, فلعب الجميع بنفس الأسلوب الأقرب للأوروبي الذي يعتمد على التكتيك الخططي والأداء الجماعي من خلال تنفيذ التعليمات دون منح الموهبة مساحتها الكافية لتعبر عن نفسها وتحدث الفارق الفني والجمالي.

هذه الفلسفة البراجماتية الخاضعة للنظريات الاقتصادية الاستهلاكية, تجلت في مباريات المونديال, كانت كالطعنة في ظهر معشوقة الجماهير ومنبع سعادة فقراء العالم.

المنتخب البرازيلي صاحب واحدة من أشهر وأجمل المدارس الكروية, ليس لشيء, إلا لتميزها بحقن المشاهد بأكبر جرعة من المتعة والمهارة الفردية والجماعية, وعلى هذا الأساس اكتسبت هذه المدرسة سمعتها التي عادت على البرازيل, وقارة أميركا الجنوبية بالمردود الاقتصادي والقيمة الدولية بشكل فاق التوقعات.. تخلى هذه المرة عن هويته، وجرد المدير الفني للسامبا كارلوس دونجا بأسلوبه الخاص المدرسة البرازيلية من هويتها, وفضل الأسلوب الأوروبي, ففقدت السامبا بريقها, وخسرت كل شيء.

ولم تكن مدرسة الطواحين الهولندية أفضل رغم وصول منتخبها للمباراة النهائية, فقد تخلت عن الأسلوب الذي عرفها به العالم "الكرة الشاملة" وذهب منتخبها ليؤدي باستراتيجية المحطات المركزية, كباقي المدارس الكروية, ففقد هويته الجمالية التي صفق لها العالم كلما قدمها دون النظر لصعوده منصات التتويج, وفي النهاية خسر الهولنديون كل شيء في جوهانسبرج.

الخلاصة التكتيكية, أن الأسلوب الأوروبي في لعب كرة القدم, كان السمة التي اتسم بها أداء جميع المنتخبات – وهو الأمر الذي سلب الخصوصية من المدارس المختلفة ووحد الذوق الكروي بما أهدر الفوارق فأفسد متعة الجماهير.





أندية فوق الدول

هناك أكذوبة روجت لها مافيا الاقتصاد الكروي في أوروبا, وصدقها العالم بأن التدفق الهائل للاعبين الأجانب لم يلحق الأذى بالمنتخبات الوطنية الأوروبية, بل عزز قوة الدول التي ينتمي إليها هؤلاء اللاعبون الوافدون.

والحقيقة التي أقرها مونديال جنوب أفريقيا, أن منتخبات كل البلدان المصدرة أو المستوردة للمواهب الكروية خسرت من فتح باب التنقلات على مصراعيه, فلاعبو الدول المصدرة للمواهب " أفريقيا مثلاً" لم تستفد من لاعبيها المحترفين في الدوريات الأوروبية بسبب إصابتهم بالإجهاد جراء كمية المشاركات مع أنديتهم, وعلى الجانب الآخر خسرت أيضاً الدول المستوردة بسبب اعتماد دورياتها على اللاعب الأجنبي في المسابقة المحلية التي من المفترض أنها الرافد الأول لتكوين منتخب قوي.. لذلك كان من الطبيعي أن يخرج المنتخب الإيطالي "بطل العالم" من الدور الأول في جنوب أفريقيا, إذا ما علمنا أن فريق إنترناسيونالي الإيطالي فاز بلقب دوري أبطال أوروبا دون أي لاعب إيطالي ضمن التشكيلة الأساسية للفريق .. وكذلك الحال في إنجلترا التي تلقت أثقل هزيمة في تاريخ مشاركتها في كأس العالم (صفر/4) وخروجها من الدور الثاني على يد ألمانيا, طالما أن عدد اللاعبين الأجانب في الأندية الإنجليزية يزيد عن النصف.